تونس | مواجهةٌ جديدة دخلها الرئيس التونسي، قيس سعيّد، مع القضاء، إثرَ قراره إعفاء 57 قاضياً، فيما يُنتظر أن تصدر قائمة أخرى تكميلية لقضاة آخرين يتّهمهم الرئيس بـ»الفساد». وفي كلمة له على هامش اجتماع مجلس الوزراء، لم يكتفِ سعيّد باتّهام القضاة بـ»الفساد والارتشاء والتسترّ على الإرهاب»، بل تجاوز هذا الحدّ، ليحاسبهم على حياتهم الشخصيّة ويغوص في بعض تفاصيلها، وهو ما يكشف بوضوح أن ما ورد على لسان الرئيس لم يستند إلى تقارير فحسب، وإنّما إلى وشايات يُعتقد أن مصدرها وزارة الداخلية التي يتردّد عليها باستمرار، كونها مفتاح حكمه وبوابة استقراره في قصر قرطاج.ويبدو أن سعيّد لم يأبه للقنبلة التي ألقاها في السلطة القضائية، وخاصّةً أن نتائج إجراء من هذا النوع معروفة سلفاً؛ إذ سبق للقيادي في حركة «النهضة»، نور الدين البحيري، أن أصدر، عام 2012، عندما قلّده حزبه وزارة العدل، قراراً قضى بعزْل قرابة 90 قاضياً تعسّفياً، ومن دون إجراءات تكفل حقّهم في الدفاع عن أنفسهم، ما دفع منظّمات القضاء ونقاباتهم إلى بدء تحرّكات احتجاجية ساندتها الساحتان السياسية والحقوقية، لتنتهي بعودة بعض القضاة إلى مهامّهم، إمّا بعد قرارهم التقرّب من «النهضة»، أو بعد خوضهم في دعاوى قضائيّة أثبتت عدم وجاهة قرار البحيري. تكرّر السيناريو هذه المرّة بتعديل بسيط، إذ أغلق سعيد وجه الطعن في قرارات العزل لدى القضاء، وسحب منهم كل باب قانوني للدفاع عن أنفسهم إلى حين بتّ المحاكم في قضايا الفساد المتعلّقة بهم. من جهتها، بدأت منظّمات القضاء وهياكلها تحرّكات احتجاجية، عبر إعلانها إضراباً عاماً واعتصاماً مفتوحاً في المحاكم ابتداءً من اليوم، لمدّة أسبوع قابلة للتجديد، والتوجّه إلى المحاكم الدولية.
وعلى جري عادته، دخل سعيد من حيث تركت النخبة الحاكمة سابقاً الباب موارباً للفساد والمحسوبية والإصلاحات الشكليّة. لم يحتج الرئيس إلى جهد كبير لجعل حدث إعفاء 57 قاضياً مرفوضاً بإجماع وطني دونما تردّد، فيكفي الأسماء التي أوردها في أعلى القائمة لتدخل الجماهير في سجال لا ينتهي: الطيب راشد، البشير العكرمي، خالد عباس وآخرون؛ أسماء ضجّت بذكرها الساحتان الإعلامية والسياسية على مدى أكثر من ثلاث سنوات، بعدما أخفقت في دحض تهم تتعلّق بالفساد والارتشاء والتستّر على الإرهاب، فتحوّلت إلى مهاجمة بعضها البعض، لتخرج ملفّات أخرى كانت مدفونة تحت أرضية وحدة المصلحة. ولم يكن لهذه الملفّات أن ترى النور لولا خلاف القضاة في ما بينهم. أمّا «تفقدية القضاة» (مراقبة القضاة) وهي الإدارة التابعة لوزارة العدل ومهمّتها التحقيق في شبهات الفساد لدى القضاة، فقد أمسكت بخيط الخلاف وقامت بتحقيقاتها، لتكتب تقريراً مؤلفاً من عشرات الصفحات، فاتسعت قائمة القضاة المتورّطين لتبلغ 27. وعلى رغم ما قدّمته «التفقديّة» من دلائل وحجج كافية لعزل هؤلاء، إلّا أنهم واصلوا، في إطار الابتزاز بالملفّات، مهامّهم من دون أن توجَّه إليهم أيّ عقوبة. من هنا، ولج سعيد، الناقم أصلاً على القضاة لعدّة أسباب: أوّلها التلكؤ في الفصل في القضايا المتعلّقة بالمخالفات الانتخابية، فكل الأحزاب التي أكدت محكمة المحاسبات في تقريرها أنها تلقّت مالاً أجنبياً، أو خرقت الصمت الانتخابي أو اشترت الأصوات، لم تحاسَب ودخلت البرلمان من دون أن تخسر مقعداً. وثانيها، ضلوع بعض القضاة في ما يعتبرها سعيّد حرباً ضدّه.
قوة الرئيس وفرادته، تكمن فعلاً في أنه ليس بالعشوائية والفوضوية التي يظنّها خصومه؛ وربّما من هنا، يتفوّق عليهم إلى حدّ الآن. فسعيّد الذي سخر منه معارضوه واعتبروا سقوطه وشيكاً نتيجة شعبويته وفوضويته، يستغلّ كل ثغرات المنظومة السابقة. فارتكز على الديموقراطية الشكلية التي أرستها طبقة ما بعد ثورة عام 2011 ليحلّ البرلمان ويعود عن خيار النظام البرلماني، وحظي بمساندة شعبية هائلة لهذه الحركة. واستغلّ حروب الأحزاب التي خاضتها لعقد ضدّ بعضها البعض ليلغيها جميعاً، واستغلّ قطيعة الطبقة السياسية مع الشعب إثر كل انتخابات ليدخل من هناك ويدّعي إعادة السلطة إلى الناخبين ويحظى بالدعم. ولا تزال المعارضة تقوم بجهد جبّار لتفرض نفسها رقماً في المعادلة.
يبدأ القضاة، اليوم، إضراباً عاماً لمدة أسبوع قابلة للتجديد، تنديداً بقرار سعيّد


وبالتوازي مع ارتدادات الزلزال القضائي، انطلقت أولى جلسات الحوار الوطني في شكل أقرب منه إلى المسرحية، فأغلبية الحاضرين في الحوار لا أهليّة لهم ولا كفاءة، لكنهم اصطفّوا إلى جانب سعيّد فاعتبرهم من «الصادقين». وبدا الحوار فاتراً وفاقداً لأيّ عنوان أو مضمون أو مشروعية حقيقية: أربعة أحزاب مناصرة للرئيس وبضع شخصيات اعتبارية وممثّلون عن «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان»، التي أكدت أنها تشارك في محاولة إصلاح من الداخل، ومنظمتَا «المرأة» و»الأعراف». أما أساس الحوار الوطني في البلاد، وهو «الاتحاد العام التونسي للشغل»، فقد رفض الحضور، مطالباً بفتح باب الحوار أمام أطراف أكثر. ولم ينتج من الجلسة الأولى أيّ نقاشات تُذكر، حتى إن رئيسها طلب من المشاركين تقديم رؤاهم في شكل ورقة مكتوبة لا تتجاوز الصفحتين، ما يؤكد أن كل محاولات نفث الروح في هذا الحوار لا طائل منها، طالما لم يتسلّم دفّتها الاتحاد ويطرح الملفّات الحقيقية، وطالما لم تكن الجلسات مساحة للنزال السياسي تنتهي بتغليب مصلحة البلاد.