ليس من الغريب على الاحتلال أن يستغلّ الأوضاع في سوريا لتحقيق قفزة نوعية في استعمار واستيطان الأرض السورية المحتلة، بما يشمل ذلك من بناء وحدات استيطانية واستجلاب مستوطنين، الاستثمار بمشاريع اقتصادية، وعلى رأسها استخراج الطاقة، واستئصال بيئة المقاومة بشكل مباشر عن طريق التطبيع، وغير مباشر عن طريق المسارات المساوِمة لأعوانه والتي تصبّ في مصلحة الاحتلال، حتى وإن ظهرت بعباءة «الحراك المدني». وهكذا، بين التوسّع الصهيوني ومطامع الغرب الاقتصادية في المنطقة، وسرديّة الحقوق الفردية الليبرالية التي تدّعي الدفاع عن الحرّية، تجتمع في هذه المنطقة الصغيرة المحتلة الجبهات المفتوحة كافة على سوريا.
اندفاع استيطاني متجدّد
في الـ11 من تشرين الأوّل، أعلن رئيس وزراء الاحتلال من أصول أميركية نفتالي بينيت أن حكومته تعتزم زيادة الاستيطان الصهيوني في الجولان المحتل بأربعة أضعاف على مرحلتين، ليصل عدد المستوطنين إلى مئة ألف. كما أكد أن هذه الجهود التي تشمل إنشاء بلدتين جديدتين غير مرتبطة بتغيير رأي المجتمع الدولي بالحكومة السورية، أي أن حكومة الاحتلال غير مستعدة للتفاوض على الجولان. ويحتار المرء من أين تأتي السخرية: من عدم الاكتراث بالإجماع الدولي على أن الجولان أرض محتلة، أو من مشاركة ممثلين من الجولان في المؤتمر (تحديداً رئيس بلدية مجدل شمس، دولان أبو صالح)، أو من مراهنة بينيت في تصريحه على تفشي ظاهرة العمل من المنزل وبقرب الطبيعة عقب جائحة «كورونا» كعامل مساعد في جذب المستوطنين الجدد!
مطامع الاحتلال في الجولان السوري ليست جديدة بالطبع، ولا انعدام نيّته في إرجاع الأرض المحتلة. فإن إعلان رئيس حكومة اليمين مناحيم بيغن في عام 1981 (غيّر اسمه من Mieczysław Biegun في البولندية ليصبح عبريّ المسمع) بضم الجولان كان امتداداً لأفكار الأب الروحي لما يسمّى باليسار في الكيان الإسرائيلي، بن غوريون (غيّر اسمه من Grun في البولندية ليصبح عبريّ المسمع) الذي رأى بدوره أنّ على مشروع الاستيطان الصهيوني أن يشمل، لا مرتفعات الجولان فحسب، بل أيضاً أراضيَ أخرى من الجنوب السوري. بهذا يكون بينيت مجرّد حامل لشعلة مشروع الاستيطان التي لم تنطفئ وشكّلت القاسم المشترك بين كل من سبقه يميناً ويساراً، مثل بنيامين نتنياهو (غيّرت عائلته اسمها من Mileikowsky في البولندية ليصبح عبريّ المسمع) الذي خطف اعترافاً من ترامب بسيادة الاحتلال على الجولان، وإيهود باراك (غيّر اسمه من Brug في الليتوانية ليصبح عبريّ المسمع) الذي ترأس حكومة حزب العمل سابقاً. ولكنّ الجديد في الأمر هو تكثيف الطاقات وتسخير استثمارات هائلة لتسريع وتيرة الاستيطان في الجولان، وتشابك الخيوط الاستيطانية والاقتصادية والإيديولوجية في وضح النهار على خلفية الأحداث في سوريا، خاصة عن طريق المسيحية المتصهينة التي أثبتت قدرتها على فتح أبواب الاستثمارات الأميركية على مصراعيها. تشكّل «فرونتير أليانس إنترناشيونال» (Frontier Alliance International) خير مثال على هذا التشابك.
يصبّ دعم المسيحية المتصهينة في المشاريع الاستثمارية في الجولان المحتل، كما في الاستيطان، خاصة مشاريع الطاقة


أُسِّست الأخيرة تزامناً مع بدء العدوان على سوريا واتخذت من الجولان السوري المحتل مقرّاً لها، بالإضافة إلى مناطق نفوذ الانفصاليين الأكراد. تجهد هذه المنظمة في تعميم الفكر الصهيوني بلباس إنجيلي، والذي يجعل من الاستيطان في الجولان وتمويله وإبقاء المنطقة تحت سلطة الكيان مهمّة إنجيلية واجبة على المؤمنين عموماً وفي الولايات المتحدة خاصة. للمنظمة عدة أذرع تشغل في جمع الأموال للاستيطان وبإنتاج محتوى ثقافي لتجنيد المستوطنين ونشر الدعم للمشروع الصهيوني في المنطقة، مثل «التحالف العالمي لإسرائيل» (Israel Alliance International) عدا المنظمة نفسها. كما وتقوم المنظمة حالياً ببناء «مقر استراتيجي إقليمي» في الجولان السوري المحتل لإدارة مهامها بالمنطقة. ما يشهد على تشابك جهود الاستيطان أخيراً مع العدوان على سوريا، عدا مكان وزمان تأسيس المنظمة ودورها في زيادة الاستيطان، هو انخراطها المباشر في الحرب على سوريا عن طريق دعم المسلحين في الجنوب السوري والانفصاليين في شمال شرق سوريا، والذين يدّعون تمثيل الأكراد. فقد قامت المنظمة، منذ بدء العدوان على سوريا، بالعمل كذراع لجيش الاحتلال في جنوب سوريا، عن طريق تقديم الدعم المباشر للمسلحين من خلال التسلل إلى سوريا عبر الجولان والمساعدة في استقبال جرحاهم في مستشفيات الاحتلال، كما تصرّح المنظمة علناً على صفحتها (وما خفي أعظم). يتولى قيادة العمليات في سوريا مؤسّس المنظمة وعضو مجلس إدارتها دالتون توماس، بالتعاون مع رئيس شعبة الاستخبارات في جيش الاحتلال سابقاً الملازم الكولونيل ماركو مورينو (قد يكون العضو الخفيّ في مجلس الإدارة للمنظمة). يظهر توماس بعدة صور متباهياً بدعم الانفصاليين عسكرياً في شمال شرق سوريا، عدا الفيديوهات التبشيرية المصوّرة في الجولان في القرى المدمّرة بكل وقاحة، ولقاءات على قنوات غربية للترويج لمنظمته. هذا الدعم المتجدد لجذب المتصهينين من أقطاب الأرض كافة للجولان هو طبعاً بالإضافة إلى دعم الأميركي الذي لم ينقطع بل تزايد منذ الخمسينيات ويشمل دعم بناء المستوطنات، بحسب تقرير هيئة الأبحاث في مجلس الشيوخ الأميركي للعام السابق، وذلك بعكس مسرحية الخارجية الأميركية التي تتظاهر بأنها توبّخ الكيان على بناء المستوطنات أحياناً.

استثمار في استخراج الطاقة
يصبّ دعم المسيحية المتصهينة في المشاريع الاستثمارية في الجولان المحتل، كما في الاستيطان، خاصة في مشاريع استخراج الطاقة التي أثارت شهية الاحتلال والمستثمرين الغربيين (والأميركيين تحديداً) منذ ما قبل عام 2010. في قطاع النفط والغاز هنالك مثلاً شركة «صهيون للبترول والغاز» (Zion Oil and Gas)، التي تعدّ أن مهمتها الإنجيلية تقتضي استخراج النفط والغاز من أرض فلسطين وبلاد الشام كما تصف في رؤيتها بوضوح على صفحتها الرسمية. كما وقبل عدة أعوام من العدوان على سوريا، جهدت شركة Genie Energy Ltd. الأميركية في استكشاف النفط في الجولان وجذب المستثمرين، حتى نجحت في عام 2010 في جذب استثمارات من روبرت مردوخ (عملاق مجال الإعلام) واللورد جاكوب روتشيلد (عملاق المصارف العالمي) الذي سبق لعائلته أن قامت ببناء مبنى البرلمان للعدو الصهيوني في الخمسينيات وقدّمت دعماً هائلاً للاستيطان. كما ويشغل مردوخ منصباً في مجلس إدارة الشركة، بالإضافة إلى ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي الأسبق في إدارة جورج بوش الابن ومدير تنفيذي سابق لإحدى أكبر شركات تخديم الحقول النفطية في العالم، شركة «هاليبورتون» (Halliburton Company) التي تورّطت بشكل مباشر في الحرب على العراق. بعد إعطاء الاحتلال الضوء الأخضر للتنقيب رسمياً في عام 2013، مُنحت حقوق التنقيب لشركة Afek Oil and Gas التي تعمل كذراع لشركة .Genie Energy Ltd الأميركية في الكيان.
في قطاع ما يسمّى بالطاقة النظيفة هنالك عدة مشاريع للاحتلال الصهيوني جاءت كتتويج لعضوية الكيان في منظمة التعاون الاقتصادي والتنموي للدول الغربيّة (OECD). كما سائر المشاريع الأخرى، تدير هذه المشاريع حفنة من شركات إسرائيلية-أميركية وأوروبية مثل شركة «إنيرجيكس» (.Energix Renewable Energies Ltd) التي أضحت تحت عدسة مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان منذ زمن نظراً إلى تعدّد مشاريعها في الأراضي المحتلة عام 1967. تقوم الشركة الخاضعة لسيطرة إحدى كبريات سوق الاستثمار والبنية التحتية في الكيان الإسرائيلي .Alony Hetz Properties & Investments Ltd ببناء توربينات عملاقة في الجولان السوري المحتل يفوق طولها 150 متراً. كما وتتعاون «إنيرجيكس» في إدارة استراتيجيتها مع شركات عالمية مثل Morgan Stanley، إحدى كبريات المؤسسات المالية الأميركية، وShell من كبريات شركات النفط الأميركية، وعملاق النفط البريطاني British Petroleum. وتشترك «إنيرجيكس» مع عدة وكلاء لتقليل اعتمادها على جهة واحدة في تصنيع التوربينات، منها General Electric (الولايات المتحدة) و Siemens-Gamesa (ألمانيا وأسبانيا) و Vestas (الدنمارك) و Nordex و Enercon (ألمانيا). ولكنّ المشروع الأكبر في هذا القطاع يتم بناؤه على يد شركة «إينلايت» (.Enlight Renewable Energy Ltd) والذي يُعد الأضخم من نوعه منذ بدء الاحتلال في فلسطين.


في سنة 2018، نجحت «إينلايت» في تحصيل تمويل لمشروع طاقة الرياح عن طريق عدة مؤسسات قامت بتشكيل مجموعة ماليّة (Financial consortium) بقيادة أكبر بنك في الكيان الصهيوني، بنك «هبوعليم». وافقت المجموعة، التي تشمل مؤسسات مالية ضخمة مثل .Harel Insurance Investments and Financial Services Ltd و .The Phoenix Holdings Ltd على تمويل المشروع بما يزيد عن 160 مليون دولار أميركي وبشروط مريحة. تحديداً، تُموّل مشاريع كهذه بالأراضي المحتلة بنوع قروض قليلة الخطورة للمستقرض (non-recourse) بحيث إنها تمنع الجهة الماليّة المانحة من ملاحقة مقدّرات الشركة القائمة على المشروع («إينلايت» في هذه الحالة) بما يتعدّى مقداراً مُتّفقاً عليه مسبقاً (collateral) في حالة الفشل أو الإفلاس، أي أن غالبية المخاطرة تقع على المستثمر. لذلك عادة ما تحمل هذه القروض فائدة عالية تعويضاً عن الخطورة للمستثمر، ما يجعلها مربحة جداً في حال نجاح المشاريع (والذي تضمنه القوة العسكرية في حالة الكيان). وكما سائر المشاريع في الأراضي المحتلة والمشاريع العالية الخطورة عموماً، يتم تأسيس مركبات استثمارية خاصة (Special Purpose Vehicles – SPVs) لإدارة هذه المشاريع نظراً إلى استقلاليتها القانونية عن الشركة الأم، فتتحمل هذه المركبات مخاطرها منفردة، ما يحمي الشركة الأم من أي تداعيات قانونية في حالة الإفلاس. مشروع «إينلايت»، على سبيل المثال، يجمع شركة .Minrav Holdings Ltd التي تتولى البنية التحتية للمشروع وشركة .Nextcom Ltd التي تتولى التصميم والبناء والصيانة، وذلك من خلال مركبة استثمارية خاصة بإدارة «إينلايت» تجمع هذه الشركات.
من الجدير ذكرُه أن بنك «هبوعليم» و«إنيرجيكس» و«إينلايت» هي من الرعاة الأساسيين للمؤتمر الذي تحدّث به بينيت عن مضاعفة الاستيطان في الجولان في تشرين الأوّل. قد لا تتبنى علناً جميع الشركات المهرولة نحو الاستثمار في الأرض المحتلة سردية المهمّة الدينية، ولكنها تجتمع على مهمّة حمل رأس المال الغربي ودفعه إلى أقصى حدود ممكنة في منطقتنا، كما في أي منطقة تقاوم الهيمنة الغربية، مُحتمية بمنظومة عسكرية-استيطانية. فمن المهم ذكرُه أن مجموعة المستثمرين الأساسيين في جميع الشركات المذكورة تشمل لاعبين عالميين في الأسواق المالية، خاصة من بريطانيا والولايات المتحدة والكيان الصهيوني (إن جاز فصلهم أصلاً). على سبيل المثال، يشكل عملاق الأسواق المالية الأميركي .The Vanguard Group Inc عقدة وصل بين جميع الشركات التي تستثمر في استخراج الطاقة في الجولان، أي أنهم من المستثمرين الأساسيين في هذه الشركات مباشرة عدا استثمارهم في المؤسسات المالية التي تستثمر بدورها في الشركات نفسها. كما أن العملاق المالي البريطاني Blackrock Advisors هو من المستثمرين الأساسيين في «إنيرجيكس» و«إينلايت»، وثالث أكبر صندوق استثماري بريطاني (hedge fund) في أوروبا، BLueCrest Capital Management (المملكة المتحدة)، هو من المستثمرين الأساسيين في شركة «صهيون للنفط والغاز» المذكورة أعلاه (مؤسس الصندوق مايكل بلات Michael Platt أصبح أغنى مدير صندوق استثماري في العالم). أمّا Genie Energy، التي منحتها حكومة نتنياهو السابقة الحقوق الحصرية للتنقيب عن النفط في جنوب الجولان والتي نجحت في تجنيد أهم اللاعبين في الاقتصاد العالمي مثل روبرت مردوخ وجاكوب روتشيلد، فهي أُسّست على يد هاوارد جوناس (Howard Jonas) صاحب شركة IDT العالمية للاتصالات والمعلوماتية وهو من أكبر المستثمرين فيها، إضافة إلى Invesco الأميركية التي بدورها من أكبر المؤسسات المالية العالمية بحيث تدير أكثر من تريليون دولار في أكثر من عشرين دولة وتستثمر بفروعها المختلفة في «إنيرجيكس» و«إينلايت» أيضاً.
يجب ألا يغيب عن القارئ أن أحد أكبر إنجازات نتنياهو للكيان الصهيوني كان توطيد الروابط بين توسّع الكيان والمؤسسات المالية الأميركية والغربية عموماً. فقبل أن يعود إلى فلسطين ليمارس واجبه كسياسي مستوطن ومحتل للأرض، كان قد تتلمذ في إحدى أكبر شركات الاستشارة المالية، شركة Boston Consulting Group، في وقت كانت فيه الولايات المتحدة تشهد بدايات الثورة النيو-ليبرالية التي قادها رونالد ريغان لاحقاً، والتي جعلت اليد العليا في الاقتصاد الأميركي والعالمي للمؤسسات المالية. فأضحى نتنياهو بذلك عرّاب الخصخصة وفتح اقتصاد الاحتلال للمؤسسات المالية العالمية (وما زال هذا صلب خلافه مع ما يسمى باليسار في الكيان، لا الاحتلال).