منذ بدء عدوان دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) وأتباعهم في الشرق الأوسط على سوريا في 2011، تشهد نشاطات الاحتلال الصهيوني تكثيف جهود على عدة جبهات في الجولان السوري المحتل وفلسطين، ما يعكس مراهنة الاحتلال والغرب على سقوط سوريا واختراق محور المقاومة مع بدء العدوان، لا بل عدّة سنوات قبل بدئه.من الملحّ فهم الغزو التوسّعي والاستيطاني في بلادنا كما في الدول التي تُحارب للحفاظ استقلالها من فنزويلا وكوبا إلى سوريا واليمن والصين كتوسّع لنفوذ رأس المال الغربي، وبذلك لا يكون من المستغرب أن تجتمع جبهات سوريا في الجولان إن كانت تجتمع في فنزويلا. ومثلما أنّ صمود سوريا أضحى ممكناً لارتباطها بمحور المقاومة، فإنّ العدو يعمل كمحور متشابك اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً. وإن كان صوت المقاومة يخفت أحياناً لشدة صراخ المعارضين الليبراليين بحجة شعارات فضفاضة كحقوق الإنسان والحرّية والتي تمحي الأساس العسكري والاقتصادي المتشابك للصراع ضد الاستعمار، فلنأخذ العبرة من أفواه المجانين أمثال جون بولتون، مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب، والذي وصف الصراع مع فنزويلا بمصطلحات اقتصادية واستعمارية صريحة وبدون ديباجة الحريات المدنية التي ترددها وزارة الخارجية كلما ذكرت دولاً كسوريا وفنزويلا، تماماً مثلما يردّدها يسار الهويات والفردانية الذي يدمّر اليسار الثوري من الداخل. فيصف بولتون اتخاذ دونالد ترامب تصادم الجيش الفنزويلي مع سفن استكشاف شركة النفط الأميركية Exxon Mobil في مياهها الإقليمية فرصة للتخلّص من مادورو، على حد تعبيره، كون فنزويلا «فعلياً جزء من الولايات المتحدة».
إنّ مناهضة السردية اليمينية للمستعمِر، كالسردية الصهيونية والمسيحية المتصهينة شيء، ومناهضة سردية المستعمِر جذرياً وبكل أقنعتها شيء آخر. فالمناهضة الأولى قد تضع المقاومة في نفس الخندق مع «يسار» المستعمِر الذي لا يزال مستعمِراً حتى ولو نادى بحقوق الإنسان والمثليّين وبتأميم الضمان الاجتماعي وما غير ذلك. في سياق موازٍ، إنّ مناهضة الاحتلال الإسرائيلي في الضفة والجولان (احتلال عام 1967) كما تراه سلطة أوسلو، ولطالما رآه تيار عزمي بشارة في الداخل الفلسطيني، شيء، ومناهضة الاحتلال الصهيوني والاستعمار في فلسطين والوطن العربي شيء آخر. فالسردية الأولى لا تقل خطورة عن سردية مؤسسات الاحتلال الصهيوني كونها مساراً مساوماً وتقود للتطبيع ولو بشكل غير مباشر، لا بل قد تشكّل خطورة أكبر لما تؤدّيه من زعزعة في المقاومة على نهج حصان طروادة فتغيّرها من الداخل كما تغيّر تعريف الاحتلال. وأثر مسار أوسلو على المقاومة الفلسطينية هو خير مثال على ذلك حيث حقق انتصاراً سياسياً وثقافياً للاحتلال لا يقل عن إنجاز احتلال الأرض ومواردها.
كذلك في الجولان، تصارع مقاومة السوريين التي أثبتت جدارتها حتى الآن، على الأقل برفض الجنسية الإسرائيلية والمحافظة على المشروع الوطني السوري، لا تيار مؤسسات الاحتلال وشركاته التي لا تنام محاولة فرض نفسها فحسب، بل كذلك تيار المجتمع المدني الذي يخطف المقاومة وينهشها من الداخل بشعارات ليبرالية تبدو وكأنها موجهة ضد الاحتلال الصهيوني والدولة السورية في آن واحد، بيد أنها تصب في مصلحة الاحتلال والمشروع الغربي والإخواني في المنطقة بدون شك. تعاظمت قوة وتنسيق هذه المنظمات في الجولان منذ العدوان على سوريا، كما في الداخل الفلسطيني وأرجاء العالم العربي، خاطفة أنظار جيل الشباب بحلّة اليسار العلماني، مع العلم أن سرديّتها تتطابق حرفياً مع وزارة الخارجية الأميركية، وتمويلها يأتي معظمه من معقل «الإخوان» القطري في الدوحة ومن أوروبا والغرب. تشكّل هذه جبهة أخرى من الجبهات المفتوحة على سوريا التي نشطت أخيراً في الجولان.
المقاومة في الجولان ضعفت؛ بين جهود الاحتلال لدفع المؤسسة الدينية باتجاه طائفي وترسيخ مؤسسات الكيان وبين منظمات مجتمع مدني مشبوهة


إنّ سعي الاحتلال الصهيوني، والاستعمار الفرنسي والبريطاني من قبله، للاستثمار في الطائفية لتقسيم المنطقة معلوم وموثّق، ولا تزال جهود تطويع السوريين في الجولان من خلال التشويه، ومن ثم تقوية هويتهم الدرزية، تتعاظم مع الوقت. وبالرغم من أن غياب مؤسسات الدولة السورية والمؤسسات الشعبية في الجولان جعل من المؤسسة الدينية المرجع الرئيسي للتنسيق وإدارة جهود المقاومة، ما يشكل نقطة ضعف تجاه الكيان، فإن مشروع «الدرزنة» الصهيوني لاحتواء السوريين في الجولان كدروز فلسطين كان واضحاً حتى للمراهقين من أهل الجولان دون أن يحتاج الأمر لعمق تحليلي أو «دكتوراه». وحتى مؤخراً، قاوم أهل الجولان المشاريع الاقتصادية للاحتلال على أرضهم مثلما أظهروا تمسكهم بهويتهم ودولتهم منذ بدء الاحتلال، فأطلقوا حملة ضد مشروع التوربينات الهوائية وضد شركة «إنيرجيكس» تحديداً، ولكن الحملة بقيت مشتتة وفشلت في إيقاف المشروع أو حتى إبطائه. فالمقاومة في الجولان ضعفت؛ بين جهود الاحتلال لدفع المؤسسة الدينية باتجاه طائفي وترسيخ مؤسسات الكيان، من جهة، وبين منظمات مجتمع مدني مشبوهة تفتقر لحاضنة شعبية وتتمتع بحاضنة غربية، من جهة أخرى، تقود الحملة ضد مشروع التوربينات.
إن دور ديباجة حقوق الإنسان والديموقراطية في الحرب على سوريا عبر «المراصد» و«الخوذ البيضاء» أصبح واضحاً، وبالرغم من إنتاج المنظمات غير الربحية الممولة أساساً عبر ما يسمّى بمؤسسات المجتمع المدني الغربية (مثل الصندوق الأوروبي للديموقراطية European Endowment for Democracy، ومنظمات أخرى غربية معنية بنشر التعايش في «إسرائيل» ومنها تبشيرية) تقارير توثيقية مهمة ضد مشروع المراوح وبالتعاون مع ناشطين بيئيّين في الكيان، هنالك ما يكفي لخلق الشبهة والشك لدى المقاومة الشعبية في الجولان ضد هذه المنظمات، ما يجعلها غير مؤهّلة لقيادة حراك مقاوم موحّد. فمثلاً، عندما احتج أهالي الجولان على دعم جيش الاحتلال للإرهابيين في جنوب سوريا عبر استقبالهم لتلقي العلاج (وبمؤازرة «فرونتير ألايانس إنترناشيونال»)، أدان «المرصد لحقوق الإنسان» عنف أهل الجولان (وباسم أهل الجولان!) ضد من وصفهم بـ«محاربين سوريين» في «الثورة» السورية. كما وأن المجموعة نفسها، القائمة على هذه المنظمة، تتعامل بشكل مباشر مع مراكز منخرطة بالحرب على سوريا، مثل ابن عزمي بشارة المدلل، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، ومركز حرمون للدراسات المعاصرة في إسطنبول التابع له. ولكنّ تناقض هذه الحفنة من الـ«ناشطين» مع الموقف الشعبي لا يمنعهم من التحدّث باسم السوريين في الجولان تحت شعارات الديموقراطية، عن طريق إصدار تقارير، وأحياناً بتلبيس التصريحات والآراء بمصطلحات علمية كـ«إثنوغرافيا» منفّذة على الأغلب بين الحفنة نفسها (وبات أمراً معروفاً في أي بيئة أكاديمية تحترم نفسها استغلال هذه المنهجية على أيدي غير المؤهلين لغاية إنتاج محتوى يبدو كأنه بحثي).
وبذلك يبقى الحراك الشعبي ضد الاستيطان والمشاريع الاستثمارية للمستعمر مُجهضاً وغير قادر لا على دمج الصف ولا على ربط الخيوط العديدة التي يلعب عليها الكيان والغرب وأتباعهم في المنطقة في الدوحة وإسطنبول. فبالرغم من أن مشروع توربينات شركة «إينلايت» يفوق حجمه بكثير مشروع شركة «إنيرجيكس» فهو غائب كلياً عن الحراك الـ«مدني»، علماً أن تمويله يتم بقيادة بنك «هبوعليم»، وهو البنك التجاري الوحيد في الجولان المحتل حيث تتم غالبية المعاملات المالية لسكان الجولان السوريين. هذا يُشير إلى استراتيجية هامة على حركة المقاومة تبنيها، ألا وهي استهداف الاستثمارات الغربية المستعمرة عن طريق ضرب المستثمرين لا المنتجات فقط، خاصة في زمن النيو ــ ليبرالية التي جعلت للمستثمرين اليد العليا في إدارة الشركات بدلاً من المديرين المهنيّين، ومن أداء سوق البورصة المؤشر الأهم لصحة الشركات، والذي بدوره مرتبط بسمعتهم. ولكن هذا المنهج يبقى بعيد المنال طالما الصراع في منطقتنا يُحرّف عن مسار العلمانية الاشتراكية لصالح صراع الهويات والحريات المدنية حصرياً، كأن السوري يستطيع أن يكون حرّاً إن كانت سوريا مُستعمرة!