غزة | على رغم أن المقاومة في غزة استطاعت أن تفوّت مخطّطاً مدروساً لجرّها إلى حرب مدمّرة، استعدّت إسرائيل لها طوال شهر كامل من مناورات «عربات النار»، إلّا أن ذلك لا ينفي الشعور الجمْعي بخيبة الأمل، خصوصاً في ظلّ تأكيد المقاومة، منذ عام كامل، أن معادلة «القدس - غزة»، و«الأقصى - محور المقاومة» صارت أمراً واقعاً لن يُسمح بكسره. ظهرت إسرائيل، عقب الحدث وخلاله، كَمَن استطاع إعادة عقارب الساعة إلى الخلف، وأَنجز في يوم واحد ما عجز عنه خلال عشرة أعوام. وسط ذلك، يكثر اللوم والعتاب والجدل، ليس حول الشعار العالي السقف الذي رفعته المقاومة عقب معركة «سيف القدس» ولم تستطع حمايته فقط، وإنّما أيضاً عن دور محور المقاومة، الذي انخرط في تعزيز الأمل بالقدرة على حماية المكتسبات، وإن تطلّب ذلك حرباً إقليمية
لا يبدو أن مفاعيل «مسيرة الأعلام»، بكلّ ما عزّزته من صور السيادة على المدينة المقدسة، ستمّحي قريباً من ذاكرة حاضنة المقاومة وجمهورها. ثمّة نقاش لا يهدأ، في الشوارع والمقاهي ومواقع التواصل الاجتماعي، حول تردّي الحالة المعنوية في أعقاب إحجام المقاومة عن الردّ. هناك من يتقبّل التعقيد الذي يحيط بالموقف، مع اشتهائه الذهاب إلى الجنون المطلق، وآخرون يرون في خطاب العقلانية والحكمة غطاءً للضعف وعدم القدرة على المبادرة. ووسط هؤلاء، يَكثر الحديث عن الدور الذي كان منوطاً بمحور المقاومة أن يؤدّيه في موقف كهذا، لم تُترك فيه القدس وحيدة فحسب، وإنّما أيضاً غزة، التي لم تتعافَ بعد من آثار حرب مدمّرة، وكان مطلوباً منها أن «تنتحر» بالمعنى الحرفي للكلمة. أكثر ما سيبقى حاضراً على موائد الجدل، هو سقف المقاومة المرتفع، والذي ظلّ السمة الأبرز لتصريحات قائد حركة «حماس» في غزة، يحيى السنوار (مثلاً)، الذي كرّر حديثه أكثر من مرّة عن الضربة الأولى التي سيتجاوز عدد صواريخها الـ1111، وعن استعداد «محور القدس» للذهاب إلى حرب إقليمية، في حال أقدمت إسرائيل على المساس بالأقصى.
يعلّق الكاتب السياسي، عبد السلام حايك، على هذه النقطة، في منشور له عبر «فيسبوك» بقوله: «اليوم عرفنا أنّنا لسنا قوّة عظمى، وأن حدود قدرتنا لا تمنحنا الأريحية لوضع سقوف عالية جدّاً. هذا درس جيّد، فخطاب المناشدة والمظلومية المقترن بالفعل أفضل ألف مرّة من خطاب التحدّي الذي لا يرقى إليه الفعل». ويتابع حايك مُوجّهاً حديثه إلى المقاومة: «نحن نعرف أنّكم أهل أفعال، وهذا كافٍ بالنسبة إلينا، ولكن التحرير مسار طويل جداً، ينبغي أن نتعلّم كيف نمشي خطواته الطويلة خطوة خطوة، بثقة ومن دون غرور ولا استحقاقات وهمية». من جهته، يذهب الأديب والكاتب محمد نصار، بعيداً في نقده أداء المقاومة، قائلاً عبر صفحته في «فيسبوك»: «على فرْض أنّكم التزمتم بعدم الردّ على النحو الذي قد يجرّنا إلى حرب، نتيجة لحسابات بعينها أو ضغوط لم تستطيعوا تحمّلها، فهل عجزتم عن إيجاد بدائل تقينا هذا الخزي وتؤتي ثمارها على نحو أفضل ولا تحمّلنا وإيّاكم أثر ارتداداتها، كما حصل في مواقف قريبة وكان لها وقعها المدوّي وصداها الذي زلزل كيانهم».
يرى الكثيرون أن حدث القدس لم يمرّ بعد، وأن المقاومة ستردّ بتوقيتها، لا بتوقيت جيش الاحتلال


أمّا الصحافي معز كراجة فينتقد، في منشور طويل، ما يسمّيه «ثقافة النضال بالوكالة»، ويرى أن تحميل غزة عبء تحرير البلاد بوصفها تمتلك جيشاً، هو «أعلى مستويات الوهم»، ويقول: «واهم من يعتقد أن في غزة جيشاً قادراً على تحريرنا في المواجهة القادمة، وواهم مَن يعتقد أن بمقدور غزة أن تتصدّى لكلّ اعتداء في الضفة». لكنّه يستدرك: «واهم أيضاً من لا يرى أن الفلسطيني في غزة يصنع المستحيل (...) وواهم من يرى أن التصدّي للاحتلال ممكن من دون مقاومة شعبية عامة في عموم فلسطين، كما كان الحال في الثمانينيات. هنالك حالة شعبية إيجابية جديدة يجب البناء عليها أهمّ من المطالبة بصواريخ غزة». وفي إطار انتقاده لشكل الحرب التي يريدها البعض محصورة في «الفعل ورد الفعل»، يشدّد كراجة على أهمية نقْد المقاومة وسلوكها وأدائها بشكل بنّاء، معتبراً أن «النقد واجب، فقد قدّسنا منظّمة التحرير حتى أصبحت اليوم على ما هي عليه، منظّمة التحرير أصبحت واحدة من أهم عقبات التحرير. لذلك، هناك نقد لحماس وخطابها وتحالفاتها الإقليمية، وكيفية استثمارها للمواجهات التي تخوضها ويدفع الناس ثمناً باهظاً فيها... ولكن عليك أن تكون أنت نفسك جزءاً من هذا النقد».
كنّا ننتظر... ولو صافرة إنذار
حتى الساعة التاسعة مساءً، المعروفة شعبياً بـ«تاسعة البهاء» - نسبة إلى الساعة التي اعتادت فيها «سرايا القدس» أن تطلق الصواريخ سيراً على نهج قائد لواء غزة بهاء أبو العطا -، وعلى رغم مرور ساعات على انتهاء «مسيرة الإعلام»، وعودة الهدوء إلى أحياء مدينة القدس كافة، كان محمود جميل يرى أن ثمّة أملاً في أن تترك المقاومة توقيعها على الحدث. يقول جميل الذي يعمل ممرّضاً في أحد المستشفيات الحكومية، لـ«الأخبار»: «كنْت على يقين بأن الصواريخ ستنطلق في تمام الساعة التاسعة، لكن الوقت كان يمضي سريعاً، مضت الثامنة والتاسعة والعاشرة، من دون أيّ فعل يشفي الغليل». وعلى النحو نفسه، كان محمد ديب، الذي يسكن مدينة طولكرم في الضفة المحتلّة، يرى أنه من المستحيل أن يمضي حدث كبير كهذا، من دون تدخّل محور المقاومة. يقول محمد لـ«الأخبار»: «بقي في عقولنا قبل نومنا الليلة الفائتة، ما كشفه القائد محمد السنوار في برنامج ما خفي أعظم، عن تشكيل غرفة عمليات مشتركة بين المقاومة في غزة وحزب الله وحرس الثورة في إيران، لمتابعة معركة سيف القدس واتّخاذ القرار الأنسب، لذا، كان اليقين قطعياً بأن الصمت الذي تَرافق مع ضجيج رقصات المستوطنين في باب العَمود، يخفي حدثاً كبيراً... مضى الوقت، من دون شيء». ويتابع: «لم تكن جموع المستوطنين في ساحات القدس بحاجة إلى صواريخ باليستية لكي يصيبها الذعر وتهرب أمام كاميرات العالم، كانت بحاجة إلى صاروخ واحد من دون رأس متفجّر حتى، يتولّى مهمّة تشغيل صافرات الإنذار، وسيكون مشهداً يخلّده التاريخ».
بالنسبة إلى الباحث السياسي، إسماعيل محمد، فإن يوم أول من أمس هو «يوم خذلان كبير، ليس لأن غزة عجزت عن الفعل فقط، إنّما لأن محور المقاومة الذي يمتلك مساحات واسعة، وقدرة على المناورة، في ميادين تمتدّ من لبنان إلى سوريا إلى العراق إلى اليمن، لم يستطع أن يحرّك ساكناً». ويتساءل إسماعيل في حديث إلى «الأخبار»: «لماذا ذخّر هؤلاء شعار محور القدس، ولم يستطيعوا حمايته، لو أن صاروخاً أو مسيّرة واحدة أُطلقت من منطقة محايدة، لقلبت المشهد بكلّه، وسيكون على جيش الاحتلال أن يحقّق طويلاً في المنطقة التي انطلقت منها، ما يعطي مساحة للمناورة والتحرّك قبل حدوث ردّ». ويعتقد الشاب محمد المصري، من جهته، أن «يوم الأحد كان فرصة للجميع من حيث التوقيت لتصفية حسابات، منها ما هو قديم، ومنها ما هو طازج»، متسائلاً: «ألم يكن من المناسب أن تطلق سوريا ولو صاروخاً واحداً، ردّاً على انتهاك أجوائها وقوائم شهداء الدفاع الجوي الذين يقضون كلّ يوم؟ أليس للجمهورية الإسلامية ثأر لمسيرة القادة الذين يغتالهم الموساد سنوياً، وكان آخرهم صياد خدائي؟ ألم يكن أكبر تشريف لدمائهم أن يتمّ الانتقام لهم بتنغيص منجز صهيوني كالذي حدث أوّل من أمس (...)».
وسط كلّ ما سبق، يرى الكثيرون أن حدث القدس لم يمرّ بعد، وأن المقاومة «ستردّ بتوقيتها، لا بتوقيت جيش الاحتلال»، خصوصاً في ظلّ تأكيد مستشار قائد حركة «حماس»، إسماعيل هنية، أن المقاومة رفضت إعطاء ضمانات للوسطاء بعدم الردّ على تجاوزات الأحد، وهو ما يفسّر عدم مفارقة الطائرات المسيّرة لأجواء القطاع، على رغم الإعلان عن انتهاء مناورات «عربات النار».