رام الله | مرّت «مسيرة الأعلام» الإسرائيلية كما خُطّط لها، لكن مع دفع الاحتلال والمستوطنين ثمناً مضاعفاً في الضفة والقدس المحتلّتَين. كان يوم المسيرة أشبه باستفتاء تترقّبه الأطراف كافّة: الإسرائيليون تجهّزوا جيداً على الجبهات كافة، والمقاومة راقبت المشهد عن كثب لتتبلور لديها صورة حول وضع «المدّ الشعبي والمقاومة الجماهيرية»، أمّا السلطة الفلسطينية فدعمت الفعاليات الشعبية ومسيرات رفع الأعلام الفلسطينية بالنظر إلى أن حركة «فتح» هي التي دعت إليها بشكل مباشر عبر الأقاليم المختلفة في الضفة. قد يبدو المشهد «سوداوياً» بالنسبة إلى كثير من الفلسطينيين، بالقياس إلى حجم التفاعل غير المسبوق مع المواجهات والفعاليات خلال معركة «سيف القدس» العام الماضي، لكن عند إجراء مقارنة سريعة بين تداعيات «مسيرة الأعلام» الإسرائيلية قبل عام 2021 من جهة، وتداعياتها لهذا العام من جهة ثانية، تُظهر المؤشّرات والإحصائيات المتوفّرة «قفزة نوعية» في المواجهة في الضفة، مع أن المقارنة بين السنة الحالية وسابقتها لا تظهر هذه القفزة أو الإيجابية على صعيد توسُّع دائرة الاشتباك. ومردّ ذلك إلى أن معركة «سيف القدس» أشعلت فتيل المواجهة بشكل أكثر قوّة، لم تشهده الضفة خاصة وفلسطين عامة منذ انتهاء الانتفاضة الثانية. قبل 2021، كانت تداعيات «مسيرة الأعلام» تقتصر على القدس وحدها، حيث يمرّ يوم 29 أيار كأيّ يوم يشهد اقتحاماً اعتيادياً من قِبَل المستوطنين للأقصى. بتعبير آخر، لم تكن هناك أيّ ردّة فعل فلسطينية قوية خارج ساحة القدس. لكن هذا العام، وخلال يوم المسيرة نفسه، سُجّلت نحو 190 نقطة مواجهة في الضفة منذ الفجر وحتى منتصف الليل. وبحسب إحصائية حصلت عليها «الأخبار»، فقد أصيب 17 جندياً ومستوطناً إسرائيلياً خلال المواجهات. وتشير الإحصائية نفسها إلى أن مقاومين نفّذوا 11 عملية إطلاق نار أوّل من أمس، في حين برز استخدام الشبّان للقنابل المصنّعة محلّياً بكثافة، إذ أُلقيت 60 قنبلة من هذا النوع نحو حواجز عسكرية إسرائيلية وشوارع استيطانية، في حين تَركّز إلقاؤها في جنين بواقع العشرات منها على حاجزَي الجلمة ودوتان، و12 قنبلة باتّجاه جنود العدو في بلدة عزون قرب قلقيلية. أمّا على صعيد المسيرات والتظاهرات، فسجّلت الضفة خروج 28 فعالية جماهيرية لنصرة القدس، تخلّلها رفع الأعلام الفلسطينية، وأصيب خلالها 163 شخصاً بجروح، إلى جانب 79 آخرين في القدس.
أثبتت مواجهات الأحد الماضي تقدُّم الشعب الفلسطيني وشبابه على كلّ الفصائل


في خضمّ ذلك، بدا صمت حركة «حماس» غريباً؛ إذ اكتفت بإطلاق مسيرات وفعاليات في عدد من محافظات غزة، ودعوات عامة عبر تصريحات قادة سياسيين وناطقين باسم الحركة للرباط والمواجهة على امتداد فلسطين وخاصة في القدس، بعكس مراحل سابقة قريبة كانت فيها الحركة تُوجّه دعوات ميدانية محصورة في كلّ منطقة من الضفة. ويفسّر مراقبون هذا التراجع باعتبارات عدّة، أبرزها: الضربات الاعتقالية المتتالية والملاحقة المستمرّة لـ«الحمساويين» في الضفة وحتى القدس، إضافة إلى تغييب عشرات القيادات المحلّية من الحركة في السجون الإسرائيلية. ففي رام الله مثلاً، غاب حسين أبو كويك، حسن يوسف، وجمال الطويل الذين يُعدّون «دينامو حماس» هناك، إضافة إلى غيرهم في المناطق الأخرى في الضفة. وفي القدس، استبق العدو «مسيرة الأعلام» بشنّ حملة واسعة من الاعتقالات والاستدعاءات للتحقيق وقرارات الإبعاد، شملت مناصري «حماس» وغيرها. مع هذا، يلاحَظ تصاعد عمليات الدفاع عن الفلسطينيين في وجه اعتداءات المستوطنين بشكل فردي داخل البلدة القديمة في القدس، حيث باتت المقاومة بغاز الفلفل أسلوباً مجدياً ومستخدماً بكثرة أخيراً.
أمّا فصائل «منظمة التحرير»، باستثناء «فتح»، فقد بدت وكأنها «صامتة صمت القبور»، ولم تطلق بمعظمها دعوات إلى التصدّي والمواجهة، بما فيها تلك الفصائل الصغيرة الممثَّلة في المنظمة، بينما نشطت «فتح» في الفعاليات الجماهيرية داخل عدد من المدن والمحافظات والأرياف، وتَركّز نشاطها في نابلس ورام الله تحديداً. والظاهر أن الحركة كانت تحاول، من خلال تجييش الجماهير، ردم الفجوة بينها وبين الفلسطينيين، مستندة إلى الفراغ الكبير الذي تركته «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«الجبهة الشعبية» وبقيّة الفصائل، من دون أن تعترضها في ذلك السلطة الفلسطينية التي تريد تحصيل مكاسب في ظلّ تراجُع شعبيّتها بشكل كبير، فضلاً عن كوْن المسيرات والمواجهات المدعوّ إليها مصنّفة «سلمية وشعبية». على أن المشاركة الخجولة نسبياً في تلك الفعاليات أظهرت عدم تفضيل الشباب الفلسطيني لهذا النوع من المقاومة، ورغبته في الالتحام على نقاط التماس مع جيش العدو والمستوطنين.
وأيّاً يكن، فقد أثبتت مواجهات الأحد الماضي تقدُّم الشعب الفلسطيني وشبابه على كلّ الفصائل، وهذا ما بات «عرفاً معتاداً» أخيراً في الضفة والقدس، حيث أثبت جيل الشباب الجديد قدرته على تنظيم نفسه عفوياً من دون انتظار دعوة من أحد. وبذا، تكون الفصائل أمام تحدّي إجراء مراجعة سريعة، لكن معمّقة، لتداعيات «مسيرة الأعلام» على الضفة، بهدف استخلاص الدروس، وربّما التركيز على دور الشباب هناك، في ظلّ عدم وجود قيادة جامعة لإدارة المواجهات.