تونس | وصف «صندوق النقد الدولي» الوضع الاقتصادي في تونس بـ«الكارثي»، مشيراً إلى أن قدرة البلاد على سَداد ديونها تضعف بشكل مطّرد. لكن الصندوق يعوّل على الإصلاحات التي تعهّدت بها حكومة نجلاء بودن، لمواصلة دعمه لتونس. وتساوق ذلك مع إصدار الرئيس قيس سعيد قراره تعيين عمداء جامعات القانون في البلاد، من دون أن يأخذ في الاعتبار اعتذارهم علناً عن أداء المهمّة، في بيان جماعي أصدروه عقب حديثه عن نيّته تسميتهم في اللجنة الاستشارية للإصلاحات الدستورية. وبعد ساعات على بيان العمداء، وردت أسماؤهم في مرسوم رئاسي للمهمّة المذكورة، بعدما ضرب سعيد عرض الحائط رأيهم. وبدا موقف العمداء مستغرَباً، إذ سبق لأغلبهم أن قدَّم خدمات استشارية للسلطة، منذ عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. لكن هؤلاء تفرّقوا بين الأطياف السياسية في أعقاب الثورة، ليقدّموا خدماتهم للأحزاب والمؤسسات على السواء، وآخرها استشارتهم من قِبَل رئيس الحكومة السابق، هشام المشيشي، في خصومته مع سعيد. ويؤكد رئيس الهيئة الاستشارية، العميد الصادق بلعيد، أن نصّ الإصلاحات الذي تعمل عليه الهيئة، متناغم مع المعايير الدولية، وهو رأي يشاطره إيّاه عدد ممَّن اطلعوا على مشروع التنقيحات الذي يبدو أنه أُعدّ مسبقاً في قصر قرطاج. ولكن العميد يغفل أنه لا يمكن النصّ، وإن كان «ثورياً» مقارنة بدستور عام 2014، أن يحظى بمقبوليّة مجتمعية، في ظلّ ضعف مشروعيته، كونه صِيْغ في سياق أحادي ومن دون إشراك الطيفَين السياسي والاجتماعي، علاوة على أنه سيظلّ موسوماً بـ«دستور سعيد». وفيما تتصاعد المطالبات بالمشاركة في الاستفتاء على هذا النصّ المقترَح بحجّة استغلال مساحة التشاركية التي تركها سعيد، فإن أطرافاً أخرى تعارضه بشكل واضح، من مثل حليف سعيد السابق، حزب «التيار الديموقراطي»، وبعض منظّمات المجتمع المدني. ويظهر ذلك مع إصدار «لجنة البندقية» (لجنة استشارية معنية بالدساتير، وتابعة للاتحاد الأوروبي)، رأياً حول مراسيم سعيد، بعدما طلبت منها المفوضية الأوروبية البتّ فيها. لكن رأي اللجنة لم يأتِ بجديد، ما خلا الدعوة إلى توسيع الحوار من أجل إشراك الطيف السياسي بما يُتيح مشروعية للنصّ الجديد، إضافة إلى تأجيل الاستفتاء، إذ لا يمكن، واقعياً وعملياً، تنظيمه في حيّز زمني لا يتجاوز الشهرين. ودعت اللجنة إلى إلغاء المرسوم المتعلّق بهيئة الانتخابات، لأنه يتعارض مع مرسوم سعيد رقم 117 المتعلّق بحلّ البرلمان. وبدا لافتاً أنه فيما كان بعض السياسيين ينادون السفارات للتدخّل لتنحية سعيد، لم يفكّر هؤلاء بطلب الفتوة القانونية. وقد يكون ذلك مفهوماً، فاللجنة سبق لها أن أعطت رأيها في بعض القوانين التي أصدرها البرلمان المنحلّ والسلطة السياسية، خصوصاً أيّام الباجي قائد السبسي، وجرى تجاهلها تماماً والسخرية منها.
بيد أنّ إشارة الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، خلال لقائه نظيره الإيطالي، سيرجيو ماتاريلا، المتعلّقة بـ«مساعدة تونس للعودة إلى الطريق الديموقراطية»، تلقّفها المعارضون والمؤيّدون بلهفة. وانقسمت الآراء بين مَن اعتبر تبون غير مؤهّل للتعليق على ديموقراطيات البلدان، وبين المعارضين الفرحين باعتراف مِن حليف سعيد الأوّل، تبون، بأنه حادَ عن الديموقراطية. ولكن التمعّن في تصريح الرئيس الجزائري كاملاً، يبرز سطحية الطرفين بشكل واضح، إذ جاء تعقيباً على تصريح نظيره الإيطالي الذي قال فيه إن بلاده ستدعم تونس اقتصادياً حتى تواصل إصلاحاتها الديموقراطية في أمان اقتصادي، ولم يكن حديث تبون إلّا تأكيداً على ذلك.
يبدو أن العلّة الحقيقية تكمن في القضاء التونسي، الذي انصاع لتعليمات سياسية من «النهضة» وحلفائها


في غضون ذلك، جاء قرار المحكمة الابتدائية في تونس بمنع السفر على زعيم حركة «النهضة»، راشد الغنوشي، وعدد من قياداتها، ليُعيد التونسيين مجدّداً إلى متابعة المستجدّات المحليّة. وتجزم هيئة الدفاع في ملفّي الشهيدَين محمد البراهمي وشكري بلعيد، أنه لا دور للرئيس في تحريك ما يُعرف بـ«ملف الجهاز السري لحركة النهضة»، وأن القرار القضائي القاضي بمنع السفر عن الغنوشي و33 شخصية أخرى من قيادات الحركة، ليس إلّا ثمرة سنوات من الضغط والمطالبة بتحقيق العدالة في هذه الملفات. وبحسب المحامين في القضية، فإن محاولة استثمار هذا الحدث من قِبَل خصوم «النهضة»، وفي مقدمّهم الرئيس، لا يمكن أن تحجب 9 سنوات من النضال من أجل تحرّك القضاء، ولو بمجرد استنطاق المشتبه فيهم.
وإذ لم يعلن سعيد، حتى الآن، ما إذا كان هو مَن يقف وراء تحريك الملفّ، إلّا أن «النهضة»، المعنية مباشرةً بالملفّ، ثارت مجدّداً ضدّ هذا الإجراء، كما دأبها، وخرجت لتشكّك في القضاء، متهمةً سعيد بالوقوف وراء منع السفر عن الغنوشي. ويقول المستشار السابق للرئيس الراحل، الأميرال المتقاعد كمال العكروت، إنه أشرف على متابعة ملفّ الاغتيالات السياسية والجهاز السري لـ«النهضة» إبان عمله مع قائد السبسي، وإن الوثائق التي احتواها تُفيد بما لا يدع مجالاً للشكّ بأن الأمر يتعلّق بتورّط مباشر للحركة، إضافةً إلى ثبوت تهم التجسّس والتخابر لجهات أجنبية وتسهيل تنقل الإرهابيين في اتجاه بؤر التوتّر والتغطية على عملياتهم في تونس. هذه التصريحات التي لم تؤخذ على محمل الجدّ، هاجمته الحركة على خلفيتها، متهمةً إيّاه بالعمل لصالح قيس سعيد، على رغم الخصومة الظاهرة بين الطرفين، وعلى رغم أن كمال العكروت مرشّح دوائر النفوذ المالي الداخلي ومدعوم إقليمياً لخلافة سعيد في المرحلة المقبلة.
ويبدو أن العلّة الحقيقية تكمن في القضاء التونسي، الذي انصاع لتعليمات سياسية من «النهضة» وحلفائها لتعويم الملفّ. وهذا الاستنتاج ليس تخميناً أو مجرّد ادّعاء، بل مثبت في تقارير تفقدية القضاء ومحاضر المجلس الأعلى للقضاء المنحلّ عندما بتّ بفصل النائب العام السابق المشرف مباشرة على ملف الاغتيالات السياسية، بشير العكرمي، وانتهى إلى تجريده من عمله وإحالة ملفّه على القضاء، واتخاذ قرار منع السفر في حقّه، فيما لا يزال قيد التحقيق لغاية اليوم. وكان مآل الملفّ ليكون بعيداً عن التجاذبات السياسية، لو أن القضاء باشر إجراءاته من دون انتظار رأي السياسيين، ولو أنه تشبّث باستقلاليته منذ البداية، ولم يهدر دم الشهيدين للمرّة الثانية.