غزة | بزيارة وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، إلى دولة الاحتلال أوّل من أمس، يكون الرئيس رجب طيب إردوغان قد أتمّ مراسم انقلابه على سياساته الخارجية المعلَنة خلال 15 عاماً، متحوّلاً من ادّعاء احتضان غزة ومقاومتها، ولا سيّما حركة «حماس» التي تربطه بها الجذور «الإخوانية» نفسها، إلى مربّع التسابق مع الدول الخليجية على تحصيل أكبر امتيازات اقتصادية وسياسية ممكنة من بازار التطبيع. وعلى رغم افتضاح هذا التحوّل، لا يجد إردوغان وحكومته حرجاً في الادّعاء أنّ ما يقومان به هو «لمصلحة القضية الفلسطينية والفلسطينيين»، الأمر الذي لا يبدو أنه سينطلي على الشارع الغزّي، وخصوصاً «الحمساوي» منه، الذي بدأت تجتاحه موجة سخط متّسعة على الأداء التركي، في ظلّ ما تلمسه المقاومة، بنفسها، من تغيّرات في التعامل معها، لن يكون آخر تجلّياتها التضييق على الإعلاميين الفلسطينيين في وسائل الإعلام التركية الرسمية، ومحاولة فرْض الأسرلة عليهم بالتهديد والابتزاز
انتهت خمسة عشر عاماً من «شوط» الاحتضان التركي المعاصر للقضية الفلسطينية، والذي كان الرئيس رجب طيب إردوغان قد دشّن فصوله، التي امتدّت في عديد استعراضاته الإعلامية، عندما انسحب من «منتدى دافوس» الاقتصادي مطلع عام 2009، احتجاجاً على محاولة الرئيس الإسرائيلي السابق، شمعون بيريز، تبرئة جيش «دولته» من المجازر التي ارتكبها في حرب غزة 2008 - 2009. حينها، قاطع إردوغان بيريز قائلاً: «أنا أتذكّر الأطفال الذين قُتلوا على الشاطئ، وأتذكّر قول رئيس وزراء بلدكم إنه يشعر بالرضا عندما يهاجم الفلسطينيين بالدبابات، وأشعر بالأسف عندما أرى جمهوركم يصفّق لمثل هذا الخطاب، لأن هناك الكثير من الناس قد قتلوا (...)». عند هذه النقطة، انسحب إردوغان، الذي كان آنذاك رئيس وزراء، من منصّة المنتدى، وأعلن أنه لن يعود إليها ثانية، لأن إدارة الجلسة أعطت لبيريز 25 دقيقة ليلقي خطابه، بينما لم تسمح له هو بنصف المدّة. ظهر الرجل حينها بهيئة «الزعيم الإسلامي» المشتهى، ليس في نظر الشارع الفلسطيني فقط، وإنّما أيضاً بعيون آلاف الأتراك الذين استقبلوا «قائدهم الأممي» في مطار إسطنبول ملوّحين بالأعلام الفلسطينية، بوصْف المستقبَل الزعيم التركي الذي خاطب الرئيس الإسرائيلي لأوّل مرّة منذ عشرات السنين، بندّية وخصومة انحاز فيها إلى «هموم الأمّة الإسلامية».
عقب تلك الحادثة بعام واحد، كان الرئيس «الإخواني» يؤدّي أكبر مناورة عاطفية ركب من خلالها صهوة القضية الفلسطينية، وسيطر فيها على وجدان الشارع الغزّي تحديداً، على نحو لم يحصّله أحد. ففي 29 أيار 2010، أبحر أسطول من السفن المحمّلة بالمساعدات الإغاثية تجاه ميناء غزة، والتي كانت من بينها سفينة «مرمرة»، وهي واحدة من اثنتَين تتبعان «تجمّع غزة الحرّة» التابع لـ«مؤسّسة الإغاثة الإنسانية التركية». وخلال إبحار الأسطول في المياه الدولية على بُعد 75 كيلومتراً من سواحل القطاع، هاجمته قوّة إنزال خاصة من الجيش الإسرائيلي بالرصاص الحيّ وقنابل الغاز المسيلة للدموع، ما أدّى إلى مقتل تسعة أتراك وإصابة 19 آخرين. بدت آنذاك «تركيا إردوغان»، الذي واصل إطلاق التصريحات النارية، وكأنّها الأب الروحي للنضال الفلسطيني. وعلى رغم أنّ الدور الإغاثي التركي في القطاع على مدار 15 عاماً، لم يتجاوز حجمه، بلغة الأرقام، بضعة ملايين من الدولارات، ظهر الزعيم التركي مُعلِناً أنه لن يعيد العلاقات بإسرائيل إلّا إذا رفعت الحصار عن غزة. إلّا أنه في عام 2013، انتهت الخصومة القصيرة باتّصال هاتفي اعتذر فيه رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، عن الخطأ، وأبدى استعداده لدفع التعويضات لضحايا الحدث، وفي مقابل ذلك، عاود الجانبان تبادل السفراء.
حتى وقت قريب، كان الحُكم «الإخواني» لتركيا يمثّل بالنسبة لجزء كبير من الشارع الغزّي ظهيراً لا يوازيه مثيل


وحتى وقت قريب، كان الحُكم «الإخواني» لتركيا يمثّل بالنسبة لجزء كبير من الشارع الغزّي و«الحمساوي» تحديداً، ظهيراً لا يوازيه مثيل، إلى الحدّ الذي شهدت فيه شوارع القطاع إبّان محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، تظاهرات مساندة للرئيس التركي. حينها، قال النائب في المجلس التشريعي، مشير المصري، في خطابه أمام الآلاف من المتظاهرين: «مستعدّون لأن نمهر الدماء فداءً للشعب التركي، ومستعدّون لبذل الدماء من أجل إسطنبول، وعلى شواطئ تركيا». واليوم، تنتهي «الخديعة» المعلَنة أمام ضغط المصالح وإغراء الاستثمار، ويبدأ مسلسل جديد عنوانه «ادّعاء أخرق»، وفق ما وصفه به العشرات من النشطاء «الحمساويين» على مواقع التواصل الاجتماعي، بأن الهدف من تطبيع العلاقة مع دولة الاحتلال هو «خدمة القضية الفلسطينية والفلسطينيين». وكان وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، أعلن، في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الإسرائيلي يائير لابيد، أنّ «تركيا اتفقت مع إسرائيل على إضفاء طاقة جديدة على العلاقات الثنائية في العديد من المجالات، وتأسيس آليات مختلفة من الآن فصاعداً». وأعرب أوغلو عن تطلّع بلاده إلى مضاعفة التبادل التجاري مع إسرائيل، والذي تجاوز هامش الـ8 مليارات دولار خلال العام الماضي، مضيفاً «(أنّنا) نريد استضافة المزيد من السيّاح الإسرائيليين في بلادنا، ونعلم أنّ السيّاح الإسرائيليين يحبّون إسطنبول وأنطاليا كثيراً، لكنّني على ثقة بأنهم سيعجَبون بالمناطق السياحية الموجودة في منطقة البحر الأسود». وأشار إلى أنّ «الحوار الذي جرى على مستوى رئيسَي الدولتَين في رمضان الماضي ساهم في جهود الحفاظ على الهدوء»، لافتاً إلى أنّ «بلاده وإسرائيل اتّفقتا على إعادة عقد اجتماعات فنّية بين الوزارات والمؤسّسات العامة ذات الصلة (...) تطبيع العلاقات مع إسرائيل يصبّ في مصلحة الفلسطينيين».
تعليقاً على ذلك، ردّ محمد رياض، وهو إعلامي وباحث سياسي مقرّب من قيادة حركة «حماس» المقيمة في قطر، على تصريح لوزير الخارجية التركي جاء فيه أن «تطبيع العلاقات مع إسرائيل لا يعني تغييراً في سياسة أنقرة تجاه الفلسطينيين»، بالقول إنه «لا وصف لهذا المنطق سوى أنه استهبال، فتغيير الموقف قد تمّ بالفعل منذ اللحظة الأولى التي اقتنع فيها صانع القرار التركي بأن يقفز عن القدس المظلومة ويتّجه نحو تعزيز علاقاته مع مغتصبها». وأضاف: «إن كان التاريخ لا يرحم، فالحاضر يسخر ويهزأ، وأبناء القدس سيضعون هذا المسار أمام تحدٍّ حقيقي بمقاومتهم وصمودهم، لنرَ إلى أيّ حدّ سيستمرّ هذا التراجع المؤسف». وفي الاتّجاه نفسه، لاقى قيام مدير عام دائرة الأوقاف الإسلامية، عزام الخطيب، باستقبال الوزير التركي، برفقة عدد من قيادات الحركة الإسلامية المقرّبة من «الإخوان» في الداخل المحتلّ، سخطاً شعبياً في الشارع الغزي، حيث علّق الكاتب والمحلّل السياسي، عزيز المصري، بالقول: «حتى باحات الأقصى أصبحت مرتعاً للنفاق... تخيّل لو أن وزير خارجية عربياً هو مَن زار الأقصى، لقامت جحافل حزب التحرير والحركة الإسلامية الإخوانية في القدس بضربه بالحجارة وسيل من الشتائم... أمّا بوراك الطباخ فيُحمل على الأكتاف في باحات الأقصى، واليوم يُستقبل بالورود وزير خارجية تركيا بعدما وضع إكليلاً من الورد على ضريح ياد فاشيم وقبر هرتزل، وبعد تصريحاته ضدّ معاداة السامية، وأهمية العلاقة الاستراتيجية مع إسرائيل، فهذا تطبيع حلال ومشروع، علماً أنها علاقة قديمة تخلّلها لفترة فتور فقط، وحتى خلال مرحلة الفتور، كانت هناك اتصالات عسكرية ومخابراتية وسياحية وتجارية».
هذا الموقف المتقدّم، الذي انسحب أيضاً بشكل لافت على الجمهور «الحمساوي»، وفق ما أظهره التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما كان هذا الشارع يرى في الرئيس التركي «خليفة المسلمين»، ترافَق مع كشْف مصادر إعلامية فلسطينية في تركيا، عن أن الصحافيين الذين يعملون في وسائل إعلام حكومية تركية، تلقّوا تحذيراً شديد اللهجة من الإساءة إلى إسرائيل في سياساتهم التحريرية، كما طُلب إليهم الابتعاد عن نشر المواد المصوَّرة التي تزيد من تعبئة الشارعَين العربي والتركي ضدّ الاعتداءات الإسرائيلية. ووفقاً لمصدر مطّلع تحدّث إلى «الأخبار»، فإنّ صحافيّين فلسطينيين وعرباً يعملون في صحيفة «Daily Sabah Arabic» وقناة «trt» العربية، تلقّوا إشعارات لفت نظر، وذلك في سياق استخدامهم المعتاد للمصطلحات السياسية في تغطية الحدث الفلسطيني، حيث أوعزت إليهم رئاسة التحرير بعدم التعرّض بـ«أيّ شكل منحاز» للقضية الفلسطينية. بدوره، أفاد أحد العاملين في «تي آر تي» بأنه «تناقَش مع مسؤوله المباشر للتوافق على صيغة تحريرية يَذكر فيها الروايتَين الإسرائيلية والفلسطينية في كلّ حدث، لكنّه جوبه بالرفض، وقد أكّد أن كلّ من يقدّم موقفاً معارضاً للسياسة التحريرية الجديدة، يُستبعد من تغطية الشؤون السياسية». لكن الأكثر إثارة للسخط، بالنسبة لأحد الفلسطينيين العاملين في واحدة من كبرى وسائل الإعلام التركية التابعة لـ«حزب العدالة والتنمية»، هو التعميم على الصحافيين الفلسطينيين الذين يحظون بشهرة كبيرة في مواقع التواصل الاجتماعي، بتبنّي «الرواية الإردوغانية» بشأن التطبيع، والتي تزعم أن الهدف منه «خدمة القضية الفلسطينية وحماية المسجد الأقصى». ويقول محمد عامر (اسم مستعار)، في هذا الإطار: «هذه هي قمّة الابتزاز، نحن نتعرّض لمحاولة اغتيال لضميرنا الوطني والأخلاقي، يريدوننا أدوات».
سياسياً، يرى مراقبون أنه وعلى رغم الصدمة الشعبية التي تسبّبت بها الانعطافة التركية تجاه إسرائيل، إلّا أنه ثمّة أصواتاً داخل فصائل المقاومة، ولا سيّما «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، كانت تؤكد خلال ذروة الموجة العاطفية التفاعلية مع الحضور التركي، أن تعاطي أنقرة مع غزة هو تعاطٍ مصلحي، سيُصار إلى التخلّي عنه إذا اقتضت المصالح الحزبية لإردوغان، أو الاقتصادية للبلاد. وإذا كانت استحقاقات السياسة التركية الجديدة لا يُخشى منها لناحية الطرد المتوقّع للمستوى القيادي «الحمساوي» من الأراضي التركية (ما جرى إلى الآن هو منع دخول الأشخاص الذي لهم علاقة بالعمل العسكري، مع إبلاغ الحركة بعدم القيام بأيّ نشاط سياسي يهدّد استقرار تركيا، أو بأيّ نوع من الأعمال الأمنية والعسكرية داخلها أو انطلاقاً من أراضيها/ راجع «الأخبار»، 26 نيسان 2022، ماذا يجري بين حماس وتركيا؟)، على اعتبار أنه لا يمكن أن تَستقبل البلاد سيّاحاً وتحتضن من يحرّض على مهاجمتهم في الوقت نفسه، فإن الخشية هي من إغلاق هامش الحرّية الذي كانت توفّره أنقرة للشباب الفلسطيني في العمل والهجرة والاستقرار المرحَّب به إلى حدّ كبير؛ إذ إن ما يحدث يُنذر بموجة هجرة جديدة، إنّما إلى أفق يضيق حتى بالمنافي.