وجدت تركيا في الكباش الدائر بينها وبين الغرب حول انضمام كلّ من فنلندا والسويد إلى حلف «الناتو» فرصتها الأنسب، لمساومة «حلفائها» وانتزاع تنازلات منهم في غير ملفّ، على رأسها مشروع «المنطقة الآمنة» الذي تعتزم إقامته في شمال شرقي سوريا، بهدف تصدير اللاجئين السوريين المقيمين على أراضيها إليه وإعادة توطينهم هناك. وبينما أوحى خطاب رجب طيب إردوغان، أول من أمس، بأن الرجل سيحاول بأقصى ما يمكن، استغلال اللحظة من أجل إنفاذ خطّته التي نُشرت تفاصيلها بالفعل، بدأت القوى الكردية، في المقابل، حملة إعلامية ودبلوماسية واسعة بهدف مناهضة المشروع التركي ومنع تنفيذه، بوصْفه خطراً على «الوجود الكردي» ككلّ. وهو توصيف ذهب في اتّجاهه أيضاً حلفاء أنقرة الأكراد الذين لم يجدوا بدّاً من رفع الصوت في وجه خطّة من شأنها إحداث تحوّل جذري في بنية المجتمع السوري على الشريط الحدودي
أوقفت تركيا، أوّل من أمس، عملية تصويت لسفراء «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) على طلب انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف، في وقت اعتبر فيه الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أن على «الناتو» دعم إقامة «منطقة آمنة» في سوريا، في إعلان واضح ومباشر عن صفقة تعدّها أنقرة لضمان تحقيق مكاسب ميدانية وسياسية مقابل القبول بتوسيع «الأطلسي» وضمّ الدولتَين المحاذيتَين لروسيا إليه. ومنذ إعلان هلسنكي واستوكهولم سعيهما للانخراط في الحلف، على خلفية التحرّكات الأميركية لمضاعفة الضغوط على روسيا بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، أعلنت أنقرة أنها لن توافق على ضمّ السويد وفنلندا إلى «الناتو» بدعوى احتضان الدولتَين «إرهابيين من حزب العمال الكردستاني»، بينما هي تُطالب بتسليمها 12 شخصاً من فنلندا و21 شخصاً من السويد، بالإضافة إلى إلغاء قرار البلدَين حظر صادرات الأسلحة إلى تركيا على خلفية التوغّل التركي في الأراضي السورية.
ولا يمكن اعتبار الصفقة التي يبحث عنها إردوغان، والتي أوضح معالمها خلال اجتماع مع نواب «حزب العدالة والتنمية» الحاكم، مفاجئة؛ إذ إنها تتوافق مع مساعيه المتواصلة لاستكمال المشروع الذي بدأه في المناطق الحدودية السورية منذ أكثر من ثلاثة أعوام بشكل جدّي، بهدف تشكيل شريط خاضع للسيطرة التركية يبعد الأكراد عن حدوده، ويضمن استمرار تحكّمه بتلك المنطقة. وهو مشروع أرادته تركيا منذ بداية الأحداث في سوريا عام 2011، عندما طلبت إنشاء «منطقة آمنة» قرب حدودها، الأمر الذي لم تتمكّن من تحقيقه بسبب متغيّرات عديدة، من ضمنها الموقف الروسي، والخلافات التركية - الأوروبية، والتركية - الأميركية، خصوصاً بعد تحالف الأكراد في سوريا مع واشنطن، والتدخّل الأميركي العسكري في سوريا، حيث تحتلّ الولايات المتحدة مناطق نفطية في الشمال الشرقي.
ويبدو أن الرئيس التركي، الذي يواجه ضغوطاً سياسية متزايدة على خلفية الصراع الانتخابي في بلاده، والذي تشكّل قضية اللاجئين السوريين أحد أبرز محاوره، يحاول خلال هذه الفترة استثمار جميع الموارد والمواقف المتاحة لتقديم دفعة لمشروعه الذي يهدف إلى إعادة توطين نحو 1.5 مليون لاجئ - من أصل نحو 3.5 ملايين -، عبر إعادة تصديرهم إلى سوريا، وتوطينهم في تجمّعات سكنية على طول الشريط الحدودي، حيث تعمل منظمة «آفاد» التركية، التي تمثّل حالياً الواجهة الرئيسة للمشاريع السكنية في الشمال السوري، على تنفيذ وحدات صغيرة (مساحة كلّ منها ما بين 40 و80 متراً فقط) بدعم مالي من جهات عدّة، أبرزها قطر، تتضمّن مدارس ومؤسّسات تركية، الأمر الذي يعني عملية توطين وتتريك في آن معاً. وبحسب الخطّة التي أعلنتها الحكومة التركية بشكل مفصّل، ستتوزّع التجمّعات السكنية على خمس نقاط رئيسة (مدن مركزية تتبع لها ضواحٍ)، يتمّ بعد إتمام تشييدها تقديم دعم مالي للاجئين للعودة والسكن فيها، بالإضافة إلى مغريات أخرى، بينها السماح بالتنقّل بين الحدود السورية والتركية (لمرّات محدودة كلّ عام)، بالإضافة إلى تقديم قروض وتسهيلات مالية بالليرة التركية التي يتمّ التعامل بها في الوقت الحالي في المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا في سوريا، لإقامة مشاريع مرتبطة بالاقتصاد التركي، الأمر الذي يضمن تحويل الشريط الحدودي السوري إلى حديقة خلفية تابعة لأنقرة.
يبدو أن الرئيس التركي يحاول خلال هذه الفترة استثمار جميع الموارد والمواقف المتاحة لتقديم دفعة لمشروعه


وقوبلت الخطة التركية بموافقة جزئية أميركية، عبر استثناء مناطق في الشمال السوري خاضعة لسيطرة تركيا من قانون العقوبات الأميركية (قيصر)، إلّا أن هذه الاستثناءات لم تلقَ ترحيباً من إردوغان، الذي يرغب في أن تشمل أيضاً جميع المناطق التي تسيطر عليها القوات التركية، بما فيها تلك التي احتلّتها بعد طرد الأكراد منها خلال عمليات عسكرية شهدتها الأعوام الماضية، ووجهت حينها بموقف أوروبي مرتبك، وسط رفض بعض الدول هذا التوغل الذي يهدف إلى إجراء عمليات تغيير ديموغرافية، مثلما كان موقف السويد وفنلندا. وشهدت العلاقات بين أنقرة وحلف «الناتو» الذي تقوده واشنطن منعرجات عديدة خلال الأعوام الماضية، أبرزها خيبة أمل تركيا بعد تعرّض قواتها لقصف سوري - روسي أدّى إلى مقتل عشرات الجنود في ريف إدلب، حيث رفض الحلف الطلب التركي بالتدخّل حينها، لينتهي الأمر بانفتاح تركي على روسيا، تبعه توتّر في العلاقات الأميركية - التركية، خصوصاً بعد صعود الرئيس الحالي، جو بايدن، الذي يُعرف بكرهه الشخصي لإردوغان، قبل أن تُغيّر الحرب الأوكرانية الموازين، وتُعيد فتح الأبواب المغلقة.
ويُجري الطرفان، التركي والأميركي، مشاورات مستمرّة حول ملفّات عديدة، ضمن صيغة حملت اسم «الآلية الاستراتيجية التركية - الأميركية لتأكيد التعاون القوي بين الحليفين»، آخرها اللقاء الذي جمع، الأربعاء، وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، ونظيره الأميركي أنطوني بلينكن، في نيويورك، حيث ناقشا العديد من النقاط الخلافية المتّصلة بـ«الدفاع ومكافحة الإرهاب والحرب الروسية في أوكرانيا»، بالإضافة إلى قضايا أخرى، وفق بيان مشترك عقب اللقاء. وبالتوازي مع هذا التحرّك السياسي، ثمّة تحرّكات عسكرية عديدة على الأرض في سوريا، أبرزها زيادة حدة الاستهدافات التركية لمقاتلين وقياديين أكراد بضوء أخضر أميركي، بالإضافة إلى إجراء لقاءات أمنية وعسكرية تُعتبر الأولى من نوعها بعد أن دخل وفد عسكري واستخباراتي أميركي إلى الشمال السوري قادماً من تركيا برفقة وفد تركي، تحت حماية جوّية أميركية وتركية مكثّفة، حيث عقد الوفدان اجتماعاً قرب مدينة أعزاز، وفق ما أفادت به مصادر ميدانية «الأخبار». وتزامن ذلك مع الأنباء التي تداولتها مصادر إعلامية سوريّة معارضة، لم يتمّ التأكّد من صحتها، حول دخول وفد عسكري أميركي من مناطق سيطرة «قسد» إلى أعزاز أيضاً، من دون تسريب أيّ معلومات حول هذيَن التطوّرَين غير المسبوقَين.
وسبقت تلك التطوّرات عمليات توسّع عسكري أميركية في مناطق تقع على خطّ التماس بين مساحة سيطرة الأكراد ومساحة السيطرة التركية، في إطار عمليات إعادة انتشار في مواقع كانت قد انسحبت منها القوات الأميركية قبل نحو ثلاثة أعوام، أبرزها موقع «خراب عشك» (خراب عشق) في عين العرب (كوباني)، ضمن معمل «لافارج» الفرنسي الذي ثبت تقديمه دعماً لتنظيمات متشدّدة بينها «داعش»، والذي يستعدّ لإعادة نشاطه بحماية أميركية، بالإضافة إلى تجهيز مناطق في محيطه كقاعدة عسكرية تضمّ مهبطاً للحوامات. وعلى الرغم من التغيّرات المتسارعة في الشمال السوري، لم تَصدر، حتى الآن، ردود فعل واضحة من روسيا، التي تخوض حرباً عسكرية ودبلوماسية حول أوكرانيا في وقت تُتابع فيه عملها، بالشراكة مع تركيا وإيران، لعقد النسخة الثامنة عشرة من لقاءات مسار «أستانا» نهاية شهر أيار الحالي في العاصمة الكازاخية نور سلطان، بالإضافة إلى الاستعدادات لعقد الجولة الثامنة من لقاءات «اللجنة الدستورية»، والمقرّرة أيضاً نهاية الشهر الحالي، وفق المسار الذي ترعاه الأمم المتحدة لحلّ الأزمة السورية.