غزة | كثيرة هي الدروس التي تعلّمتها المقاومة الفلسطينية من عدوان «الرصاص المصبوب» عام 2008، لكن أبرزها على الإطلاق هو ألّا تأمَن العدو، وألّا تركن إلى أيّ تطمينات يحاول إشاعتها، خصوصاً إذا ما بدا ذلك متعمّداً كما يحصل حالياً. اليوم، تشتمّ فصائل المقاومة في غزة رائحة «غدر» ممّا يجري، خصوصاً لناحية تكثيف الاتّصالات الديبلوماسية، وفي الوقت نفسه إنفاذ أعلى درجات الاستنفار على الأرض وتسريب معلومات مغلوطة حول عمليات اغتيال هنا أو هناك. وفيما بدا لافتاً أمس إعلان حركة «حماس» أنها أوصلت إلى مَن يعنيهم الأمر تحذيرات من إعادة تفعيل نهج الاغتيال، لِما سيستدرجه من ردود فعل «لا يستطيع أحد تقدير مداها وتبعاتها»، تؤكد مصادر المقاومة أن الأخيرة تضع في حسبانها إمكانية استغلال مناورة «مركبات النار» في شنّ حرب استئصالية كبرى، باتت تمثّل حاجة ماسّة بالنسبة إلى قادة العدو، في ظلّ «التآكل المستمرّ في صورة الجيش والدولة»
يُجيد من عايش أربع حروب مدمّرة في غضون 12 عاماً، عقْد المقاربات على نحوٍ يقظ. ذلك أن مناخات المواجهات الكبرى وإرهاصاتها تتشابه، وخصوصاً في غزة، حيث تكاد مقولة: «الحروب تعيد نفسها» لا تخطئ. يتبدّى التشابه الكبير بين الأجواء الراهنة، وتلك التي سبقت اندلاع أولى الحروب التي شهدها القطاع (2008 - 2009)، في عدّة معطيات من بينها أن المقاومة كانت تُغرق مستوطنات غلاف غزة، وحتى عمق 40 كيلومتراً، برشقات صاروخية غير منقطعة، بينما كانت إسرائيل تتوسّل الفصائل عبر وسطاء دوليين وإقليميين لوقف النار. وفيما عاشت المقاومة والمؤسّسات الشرطية والحكومية أوضاعاً عادية حتى صبيحة يوم السبت الواقع في الـ27 من كانون الأوّل 2008، بدأت أسراب كبيرة من الطائرات الإسرائيلية، في التوقيت المذكور، أولى ضرباتها التي أودت بحياة المئات من عناصر الأجهزة الأمنية. واليوم، يبدو واضحاً أن إسرائيل تبالغ في ادّعاء حاجتها إلى الهدوء، وتفْرط في الضغط على الوسطاء الذين أجروا أكثر من 150 مكالمة هاتفية مع قيادة المقاومة خلال شهر رمضان، لكي لا تردّ الأخيرة بالنار على انتهاك المستوطنين حرمة المسجد الأقصى، ليتقاطع كلّ ما تَقدّم مع حاجتها الملحّة إلى حرب، تتولّى فيها زمام المبادرة، وتحدّد ساعة الصفر، وتصمّم شكل الصدمة التي يمكن من خلالها أن تحقّق اختراقاً، يعيد هالة الردع إلى سابق عهدها، وينسف الوقائع التي فرضتها المقاومة عقب معركة «سيف القدس».
وتمثّل غزة بالمعادلات التي تعزّزها يوماً بعد آخر، مشكلةً كأْداء، ليس لاستقرار الواقع الأمني لدولة الاحتلال، إنّما في وجه الحلم اليهودي بأسرلة ما تبقّى من أحياء القدس، وفرض وقائع التهويد والتقسيم المكاني والزماني على المسجد الأقصى، وهو الحلم الذي لم تتوفّر له ظروف دولية أنسب من التي يعيشها المحيط العربي حالياً، حيث دُمّرت قوميّة دول المركز (سوريا، مصر والعراق)، ونُزع منها زمام المبادرة لتحقيق الطموحات القومية المشتهاة، فيما تُجاهر دول الخليج بتطبيعها العلني مع الاحتلال. وتلك فرصة، ينبغي إسرائيلياً منع غزة من تقويضها، ليس بما تمتلكه من ترسانة صاروخية، إنّما بما تتولّاه من مهمّة الظهير المحرّض، والمستنهض لساحات المواجهة كافة، سواءً في القدس أو الضفة أو حتى مدن الداخل المحتل، وهي ساحات تستشعر، منذ «سيف القدس»، أنها تؤدّي تكليفاً متواضعاً، مقارنة بالثمن الذي ستدفعه غزة إذا ما قرّرت التدخّل.

وقائع ميدانية
يتصاعد التهديد بإمكانية قيام الاحتلال بضربة مباغتة، في الوقت الذي يُجري فيه جيشه مناورة «مركبات النار»، وهي واحدة من أكبر المناورات التي نظّمتها الدولة العبرية منذ تأسيسها، وتحيطها بأجواء من الغموض والتعمية. لكن بالنسبة إلى الخبراء العسكريين، فإن الهدف من المناورة هو واحد من اثنين: إمّا أن تكون تدريبة روتينية تضمر جملة من الرسائل إلى الخصوم، أو أن تكون خداعية بما يشكّل مقدّمة لفعل عسكري تجاه خصم محدَّد سلفاً وفق خطّة مدروسة. وتتزامن «مركبات النار» مع تفجير العدو المشهد بجملة أحداث ذات تأثير إعلامي كبير، بدءاً من اغتيال الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، مروراً بالاعتداء على جنازتها، وصولاً إلى تسريب جهات مخابراتية تابعة للاحتلال عدداً من الأخبار المضروبة، أوّلها في 14 أيار الجاري، حيث نُسب خبر إلى قناة «المنار» التابعة لـ«حزب الله»، عن قيام العدو باغتيال عماد مشارخة باستهداف مركبته في منطقة القنيطرة المحاذية للجولان السوري المحتلّ، ليتبيّن في ما بعد عدم وقوع ضربة في المنطقة المذكورة، فضلاً عن نفي «السرايا» للخبر جملة وتفصيلاً. وبعد ذلك بيومين، سُرّب خبر آخر (نُسب إلى جريدة النهار اللبنانية) عن نجاح جهازَي «الموساد» و«السي آي إيه» الأميركي، في عملية مشتركة، في اغتيال القيادي في «كتائب القسام» في الخارج، محمد حمدان، خلال زيارته الأردن.
للمقاومة أيضاً مقارباتها وحساباتها الدقيقة، وهي لن تكرّر تجربة حرب 2008 - 2009


أيضاً، ومنذ بدء المناورات في 8 أيار الجاري، لم تفارق سماءَ غزة مختلفُ أنواع الطائرات الإسرائيلية، سواءً المسيّرة مِن مِثل «نحشون شافيت» و«ثاندر بي Thunder B» و«هيرميس»، أو الانتحارية كـ«هاربي». ويُضاف إلى ما تَقدّم، اهتمام قادة جيش الاحتلال بالتعبئة النفسية خلال التدريبات، من خلال تكثيف زيارة القادة العسكريين للوحدات المشاركة فيها من أجل بثّ روح الحماسة، وهو ما لم يُستثنَ منه جيش الاحتياط الذي استنفر هو الآخر - على رغم ما قابل وضعه في مقدّمة الصفوف من سخط كبير -، فضلاً عن تنظيم مناورات ميدانية في داخل مدن العمق، للتدرّب على الاستجابة المبكرة في حالة الاستهداف الصاروخي المركّز. وعلى المقلب الفلسطيني، وبينما أعلنت وزارة الداخلية في غزة، أمس، إطلاق مناورة لرفع مستوى جهوزية طواقمها الأمنية والشرطية، كشفت منصّة «ميدان» المحلّية المقرّبة من حركة «حماس» عن انسحاب الطواقم المصرية العاملة في مشاريع إعادة الإعمار في القطاع. ومع أن وزارة الأشغال سارعت إلى نفي الخبر على لسان وكيلها ناجي سرحان، إلّا أن عدّة مواقع «حمساوية» من بينها «فلسطين الآن» عاودت تأكيده، علماً أن هكذا خطوة لا تلجأ إليها الدول الموفدة، إلّا في حالة وجود إنذار ساخن بمواجهة مقبلة، ولا سيما أن مشروع المدينة المصرية المقام في غرب مدينة بيت لاهيا شمال غزة، كان قد شهد محيطه غارات خلال الحرب الماضية.

فرضيات المقاومة
للمقاومة أيضاً مقارباتها وحساباتها الدقيقة، وهي لن تكرّر تجربة حرب 2008 - 2009. ولذا، فقد أعلنت الاستنفار بشكل وقائي في مختلف صفوفها. ووفقاً لمصدر فيها، فإن جملة من الإجراءات تتعلّق بتحرّك رتب معيّنة في القيادة الميدانية والقيادة العامة، يجري تطبيقها بحزم منذ بدأت المناورات الإسرائيلية. وفي هذا الصدد، تقرأ مصادر في المقاومة وقيادتها السياسية «مركبات النار» في ضوء مجموعة من الفرضيات، أبرزها ما يلي:
- تريد إسرائيل استعادة زمام المبادرة، خصوصاً أنها لم تقُم بفعل ابتدائي منذ حرب عام 2012، عندما اغتالت قائد أركان المقاومة، أبو محمد الجعبري. وقد تركت منذ ذلك الحين، الذهاب إلى المواجهة الموسّعة مرهوناً بظروف بيئة المقاومة وقراراتها.
- تقدّر المقاومة أن تعاطي قيادتها الجدّي مع مفرزات معركة «سيف القدس»، بالتلويح المستمرّ بضربات كبرى تجاه مدن العمق، في حال أقدمت الجماعات اليمينية على خطوات تمثّل تهديداً وجودياً للوقائع القائمة في المسجد الأقصى والبلدة القديمة، وما عكسه هذا الاقتدار من صورة الظهير القوي في حاضنة المقاومة في الضفة والداخل المحتلّ، إنّما يمثّل بالنسبة إلى إسرائيل حالة غير صحّية، تجب المسارعة إلى القضاء عليها، خصوصاً أنها تأكل من صورة الجيش والدولة. ولذا، فإن إمكانية استغلال المناورة في شنّ حرب استئصالية كبرى هي فرضية قائمة، يتمّ التعامل معها بجدّية.
- تقرأ المقاومة أخبار تنفيذ عمليات اغتيال بحق قيادات عسكرية في ساحة الخارج، في إطار إمكانية حدوث الفعل ونقيضه، بمعنى أن الاحتلال قد يستخدم تلك الأخبار في إطار التعمية على نوايا تنفيذ فعل كبير في منطقة ما، لكن ذلك لا يلغي إمكانية تفكيره جدّياً في هكذا فعل، ما يحتّم توخّي درجات أكبر من الحيطة والحذر.
- ثمّة قراءة أكثر تشاؤماً لما يحدث، يعبّر عنها مصدر سياسي في المقاومة في حديث إلى «الأخبار»، مشيراً إلى تنامي الأصوات الإسرائيلية المطالِبة بتنفيذ عملية «قطف الرؤوس»، والتي تستهدف اغتيال عدد من القادة «الصقور»، الذين ساهموا في نقل المشهد المقاوم إلى مستوى أكثر «تطرّفاً». والحديث هنا يدور عن قيادات بحجم يحيى السنوار، زياد النخالة، محمد الضيف وأكرم العجوري. ويرى الاحتلال أن تزامن تصدُّر السنوار والنخالة المشهد المقاوم، ساهم في جعل المقاومة «أكثر جرأة وجنوناً واستعداداً دائماً للقتال، أو السير على حافّة الهاوية التي تنحدر إلى جولة قتال»، وفق المصدر نفسه. وعليه، من يرجّح هذا المنحى يقرأ المناورة الحالية على أنها قائمة في الأساس لاحتواء ردّة الفعل العنيفة على تنفيذ عملية اغتيال كبرى كتلك.
في محصّلة الأمر، يفاقم اشتعال عدّة ساحات في آنٍ واحد، خطر الإقدام على «فعل كبير» يُراد له أن يتّخذ سمة المباغتة والغدر، فيما يعدّ تلويح جماعات إسرائيلية متطرّفة بتنظيم «مسيرة الأعلام» في الـ28 من الجاري، تحت شعار «هدم قبّة الصخرة»، نقطة الفصل، التي يمكن أن يغلب فيها صوت النار، مناشدات الوسطاء.