شهد ملفّ الحوار الوطني السوداني حراكاً ملفتاً - ظاهرياً على الأقلّ -، في أيار الجاري، بعد فترة من التجاذبات بين قادة «مجلس السيادة» الحاكم، و«قوى الحرية والتغيير»، وجماعات سياسية معارضة، حول مسار المرحلة الانتقالية. فبينما تمسّك العسكريون بتبنّي مقاربة يسمّونها «الاحتكام إلى الديموقراطية ورفض الإقصاء السياسي»، وألمحوا إلى وجود اتّصالات مع الأحزاب السياسية (من قوى الحرية والتغيير) يمكن البناء عليها، تمسّكت الأخيرة بخطاب متذبذب فسّره مراقبون على أنه نوع من «توزيع الأدوار»، تمهيداً للدخول في محادثات جدّية مع العسكريين. أمّا المجموعات «الثورية»، وفي مقدّمها «الحزب الشيوعي» و«تجمّع المهنيين»، فأصرّت على مقاطعتها التامّة لأيّ حوار مع العسكريين، وأكدت رفضها المتكرّر لمجمل أداء «الحرية والتغيير» منذ كانون الثاني 2019. وبين هذا وذاك، يبدو أن ثمّة قناعة بأن الحوار الوطني، بشكله الراهن، لا يمكن أن يقود إلى استعادة «حكومة مدنية»، وأن حدّه الأقصى هو ضمان سلاسة المرحلة المتبقّية من العملية الانتقالية، وصولاً إلى الانتخابات المفترضة.
أجندة مضطربة
اتّفق مبعوثو ما اصطُلح على تسميتها «الآلية الثلاثية»، ممثّلةً في بعثة الأمم المتحدة (يونتامس) والاتحاد الأفريقي و«إيجاد»، في نيسان الماضي، مع رئيس «مجلس السيادة»، عبد الفتاح البرهان، على إقدامه على إجراءات لـ«بناء الثقة» قبيل إطلاق الحوار رسمياً في شهر رمضان (الذي انتهي مطلع أيار الجاري من دون أن يتحقّق ذلك). وحظيت جهود الثُلاثي بدعم مبكر من الاتحاد الأوروبي و«الترويكا» التي تضمّ كلّاً من النرويج والولايات المتحدة والمملكة المتحدة؛ إذ أصدر هؤلاء، في نهاية الشهر الفائت، بياناً، بعد سلسلة من الاجتماعات مع المعنيّين السودانيين، رحّبوا فيه بالجهود المبذولة لعقد الحوار، الذي لم تَصدر بعد (حتى منتصف أيار)، تأكيدات بتلقّي الأطراف دعوات إليه. وبالتزامن مع ما تَقدّم، وفي مسعى لتصعيد الضغوط على «مجلس السيادة»، خاطبت 108 منظّمات دولية وسودانية معنيّة بحقوق الإنسان البيت الأبيض (1 أيار)، داعية إيّاه إلى فرض عقوبات على البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو «حميدتي»، بسبب «تورّطهما في انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان»، ومطالِبةً بـ«عدم قبول الانقلاب كوضع قائم جديد في السودان».
وإلى جانب الغموض بخصوص موعد انطلاق الحوار، ثمّة إرباك وتخبّط حول أجندته. إذ بينما أعلن رُعاته أنّ الاجتماعات الأوّلية ستبحث التعديلات على الإعلان الدستوري، ومعايير اختيار رئيس الوزراء والحكومة، وخطّة إنهاء الوضع الاقتصادي المتدهور وإجراء الانتخابات العامة، أكّدت «قوى الحرية والتغيير» التزامها بمواصلة الضغط من أجل تكوين «حكومة مدنية كاملة من دون مشاركة عسكرية». أمّا الجيش، وعلى رغم إبدائه أكثر من مرّة عدم الاهتمام بالاستيلاء على السلطة، إلّا أنه يعمل على إرساء تحالف سياسي جديد يضمّ أطرافاً من النظام السابق لمواجهة معارضيه. لكن بحسب بعض المصادر، فإن ثمّة تبايناً بين رؤيتَي مبعوث الاتحاد الأفريقي محمد ولد ليبات، ورئيس «يونيتامس» فولكر بيرثس، بخصوص مشاركة قوى سياسية محسوبة على نظام عمر البشير في الحوار؛ إذ بينما يعتقد الأوّل بضرورة إشراك هذه القوى في ظلّ تمتّعها بشعبية ولا سيّما وسط قطاعات إسلامية معتبرة، يرفض الأخير (الذي توتّرت علاقاته مع البرهان في الأسابيع الأخيرة) الفكرة، استجابة لطلب «قوى الحرية والتغيير». وبالإجمال، يدور الخلاف داخل «الآلية الثلاثية» حول الأطراف المؤهَّلة للمشاركة في الحوار، ما يقود بدوره إلى تأجيل انعقاده، وسط تمسّك من العسكر - وفق ما ورد على لسان دقلو - بوجوب أن تكون «المحادثات شاملة لجميع الأحزاب السودانية»، وإلّا فإن الخلافات ستتجدّد «وعلى نحو أسوأ هذه المرّة، لأن المسألة تهمّ ولايات السودان الثماني عشرة، وليس مجرّد ثلاثة شوارع (في إشارة إلى لجان المقاومة)».

محادثات حول المحادثات
أعلن ياسر العطا (عضو مجلس السيادة والمكلَّف من قِبَل الأخير بمتابعة الملفّ السياسي)، مطلع أيار الجاري، إجراء المجلس «سلسلة اجتماعات مع جميع القوى السياسية (باستثناء الحزب الشيوعي) لخلق مناخ ملائم قبل بدء عملية الحوار الوطني»، وتصنيف المسائل المشتركة ما بين متوافَق عليها بالكامل، ومتوافَق عليها جزئياً، وثالثة محلّ خلاف. وإذ عاد الجيش وأوضح أنه لم يعقد حواراً مباشراً مع الأحزاب، بل عمل على «تضييق الفجوات» بينها وبينه، فقد بيّن أن النقطة التي تحظى بأكبر مساحة من الإجماع هي أهمية دور «الآلية الثلاثية» في تنظيم الحوار. من جهتها، أعلنت الأخيرة، في 12 أيار، إطلاقها محادثات مبدئية مع المعنيّين السودانيين، بهدف «إرساء أرضيّة مشتركة» للحوار، مُعربةً عن تفاؤلها بتنظيمه. عقب ذلك، سلّم ما يُعرف بـ«تحالف اللجنة المركزية» داخل الآلية، الأطراف المعنيّين، ورقة دعا فيها إلى تعليق إعادة تمكين أعضاء النظام السابق في جهاز الدولة الإداري، وعدم إعادة الممتلكات المصادَرة من قِبَل «لجنة إزالة التمكين»، مقترحاً تقسيم الحوار إلى مسارَين: الأوّل، التركيز على إنهاء الانقلاب وإزالة آثاره وإرساء دستورية شرعية جديدة مقبولة شعبياً؛ والثاني السعي لاستعادة الانتقال بقيادة مدنية، وهو ما لن يحظى بقبول «السيادي».
يبدو أن ثمّة قناعة بأن الحوار الوطني، بشكله الراهن، لا يمكن أن يقود إلى استعادة «حكومة مدنية»


وفي خضمّ الشدّ والجذب الحاليَين، تكوّنت مجموعة باسم «ميثاق تأسيس سلطة الشعب» (12أيار)، من عناصر لجان المقاومة في الخرطوم (والتي شكّلت مع الحزب الشيوعي وجمعية المهنيين القوّة الأساسية لحراك كانون الأوّل قبل انسحابها من تحالف قوى الحرية والتغيير)، في محاولة «لكسر هيمنة قوى المعارضة الراهنة»، كونها «فشلت في قيادة المرحلة الانتقالية إلى برّ الأمان رغم الدعم الذي حصلت عليه». ورأى الموقّعون على الميثاق في ما قاموا به «خطوة إلى الأمام في إطار التحوّل الديموقراطي، لأن السلطة يجب أن تعود إلى الشعب»، مجدِّدين مطالبتهم بإسقاط نظام الانقلاب، ومحاسبة جميع مَن تورّطوا في انتهاكات في المرحلة السابقة سواءً من العسكريين أم المدنيين، وداعين إلى استمرار المقاومة السلمية عبر «أدوات مجرَّبة ومبتكرة».

مستقبل الحوار
تُراهن القوى المعارضة لـ«مجلس السيادة»، في تحرّكاتها، على عدّة عوامل، أهمّها ما ألحقه انقلاب 25 تشرين الأوّل من أضرار جسيمة بالاقتصاد السوداني (تعليق مشروعات البنك الدولي البالغة قيمتها 760 مليون دولار، وحزم مساعدات بقيمة 500 مليون دولار كانت مقرَّرة لدعم الموازنة السودانية في كانون الأول 2021، ومِثلها لدعم مشروعات تنموية، إضافة إلى حزم مساعدات أميركية من ضمنها مِنحة قمح قدرها 350 ألف طن متري سنوياً). كما ترى المعارضة أن «تعدُّدية مراكز الإرهاب وتعدُّدية الميليشيات والقوات المسلحة والحركات المسلّحة، يمكن أن تهدّد بوقوع الصدام في ما بينها»، ومن ثمّ باندلاع حرب أهلية مدمّرة، وأنه من الضروري أن تتناول أيّ تسوية سياسية حقيقية هذا المأزق، مقترِحةً لذلك «تكوين جيش وطني جديد يعمل بعيداً عن السياسة، ويلتزم بدوره بحماية الوطن والديموقراطية».
في المقابل، نجح المكوّن العسكري، إلى حدّ بعيد، في استعادة ورقة التيّار الإسلامي لموازنة أيّ ضغوط حالية أو مستقبلية من قِبَل المكوّن المدني، ولا سيّما أن هذا الخيار لقي تأييداً لدى دول إقليمية فاعلة في الملفّ السوداني - على الأقلّ مرحلياً - لتفادي مزيد من انفلات الأمور، ومحاولة تحجيم مطالب المدنيين، وإرغامهم على قبول فكرة إدارة «مجلس السيادة» للمسار الانتقالي حتى إجراء انتخابات عامّة في البلاد (من دون توفّر ضمانات حقيقية بموعد هذه الانتخابات أو شروط نزاهتها). ويؤشّر ذلك إلى أن الحوار الوطني المزمع عقده، لن يتجاوز كونه إطاراً لتمرير المرحلة الانتقالية بأقلّ قدْر من الاضطرابات السياسية والاقتصادية والأمنية، وصولاً إلى استحقاقات نهاية المرحلة الانتقالية.