القاهرة | أظهرت الآونة الأخيرة تحوّلاً واضحاً في السياسات الاقتصادية الخليجية تجاه النظام المصري، بعدما بدا أنّ الكلفة التي تكبّدتها تلك الدول لدعم بقاء نظام عبد الفتاح السيسي، بلغت مستويات قياسية، من دون أن تعود عليها بالفوائد التي كانت مُتوقّعة منها. وأصبح البنك المركزي المصري مطالَباً بسداد فوائد الودائع الخليجية التي يحتفظ بها، وتشكّل نحو نصف الاحتياطي النقدي، في ظلّ رفض خليجي قاطع لتقديم معونات اقتصادية بمليارات الدولارات من دون مقابل، بما في ذلك المشاريع التنموية التي كان يجري ضخّ ملايين الجنيهات فيها عبر المؤسّسات الخليجية المختلفة، والتي توقّفت بشكل شبه كامل ووُجّهت إلى دول أخرى، ليقتصر الدعم الخليجي حالياً على الاستثمار والشراكة مع الحكومة، أو بتعبير أدقّ مع الجيش.قبل وصول السيسي إلى السلطة، كانت أنشطة الجيش محدودة بشكل كبير، وقد كان الهدف الرئيس منها توفير بعض الاحتياجات الخاصّة بالقوات المسلحة وبيع الفائض للمواطنين. لكن بعد عام 2013، بات للجيش اقتصاد موازٍ لاقتصاد الدولة، متكامل ومكتفٍ ذاتياً ولديه القدرة على التعامل مع المتغيّرات بشكل حتى أكثر مرونة من الحكومة. إذ اختار السيسي أن يعتمد على الجيش للتخلّص من الروتين الحكومي، وتسريع المشاريع التي تستغرق وقتاً أكبر عبر بقيّة المؤسّسات، بسبب القوانين المعمول بها في مصر، والتي تنصّ على ضرورة تحقيق العدالة بين المتقدّمين لتنفيذ المشروعات الحكومية. لكن حتى هذه القوانين غيّرها السيسي لاحقاً عبر تعديلات دستورية، بما يتيح له تنفيذ «إسنادات» بالأمر المباشر، من دون دراسة، وبتفضيلات لا تتّسق إلّا مع الأهواء الشخصية للرئيس، الذي ظهر في أحد اللقاءات التلفزيونية ليَطلب من مقاول منفّذ لمشروع تولّاه الجيش، الحصول على 25% من حقّه، والانتظار لنيل الباقي بسبب عدم وجود سيولة مالية كافية، بل ويدعوه إلى العمل في مشروع آخر، في مخالفة لكلّ قواعد الاقتصاد.
باختصار، بنى السيسي إمبراطورية اقتصادية للجيش على حساب المصريين، بدءاً من تمكين العسكر من الحصول على الأراضي بالمجان، مروراً بإعفاءات جمركية كاملة على جميع ما يجري استيراده لصالحهم، وصولاً إلى إزالة الأسواق الشعبية وطرد الباعة المتجوّلين من المناطق الحيوية من أجل وضع منافذ للجيش ولاحقاً للشرطة، واقتطاع بعض الأراضي في المناطق العسكرية لتكون مناطق استثمارية وتجارية. وتنوّعت استثمارات الجيش ما بين محطّات محروقات ومصانع «معكرونة» ولحوم، فيما بقيت ميزانياته وأرباحه أسراراً عسكرية لا تعلَن ولا تناقَش، لكن المؤكد أن تلك الأرباح بلغت مليارات الجنيهات، بما يفوق بأشواط ما تُحقّقه شركات القطاع الخاص، والتي تُسدّد رسوماً مبالَغاً فيها لصالح الدولة، تُحصّلها من المواطنين.
وفي السنوات الأولى من حُكم السيسي، ضخّ الخليجيون، باستثناء القطريين، استثمارات ضخمة في مجال الإعلام، وفي مشروعات لم تُحقّق نجاحاً، إلى حدّ أنهم عندما خرجوا من هذه الاستثمارات، لم يجنوا سوى أقلّ من ربع ما أنفقوا فيها. ونتيجة لذلك، تتركّز أعين الخليجيين اليوم على الاستثمارات التي ينفّذها الجيش، لضمان العائد المادّي، خصوصاً أنه يَصعب الخروج منها مستقبلاً من دون استرداد ما دُفع فيها. وتتطلّع السعودية والإمارات، تحديداً، إلى المشروعات الأكثر ربحية، مثل شركات توزيع المياه المعدنية، والبنوك الحكومية، ومحطّات المحروقات. ويعود هذا الشرط الخليجي إلى كون الاستثمارات السابقة انصبّت بمعظمها في شركات خاسرة، من دون أن تفلح في إنعاشها أو إعادتها إلى الحياة. لكن المشكلة التي تُواجهها شركات الجيش هي ميزانيتها السرّية، والتي تصعّب طرحها في البورصة بهدف إضفاء إطار رسمي على الاستثمارات الخليجية.
وتنتظر الأطراف السعودية والإماراتية والقطرية خطّة الحكومة المصرية لإشراك القطاع الخاصّ في إدارة أصول الدولة بقيمة 10 مليارات دولار سنوياً، قبل ضخّ استثماراتها، وهي الخطّة التي أعلن عنها السيسي الشهر الماضي، من دون توضيح تفاصيلها. ويمثّل بيع الأصول التي تديرها الحكومة أو الجيش، آخر الطرق المتوفّرة أمام النظام للحصول على الدولارات من الخليج، في ظلّ صعوبة الحصول على قروض للسنوات الأربع المقبلة، بهدف تخفيف أعباء الموازنة. وستنطلق عمليات إشراك القطاع الخاص، أو بمعنى أدقّ بيع جزء من أملاك الدولة للخليجيين، في أيلول المقبل، ببرنامج طرح الشركات الحكومية للاكتتاب في البورصة، حيث تستهدف مصر جمع نحو 6 مليارات جنيه خلال الطرح الأوّلي، بما يعادل نحو 330 مليون دولار فقط، في حين تُجرى مراجعات لحصص شركات الجيش التي ستُطرح في وقت لاحق، إلى جانب حصص من شركات تمتلكها هيئة قناة السويس.