الصهيونية مشروع نكبة دائمة بالنسبة للشعب الفلسطيني. فعملية اقتلاع هذا الشعب من أرضه لإحلال المستوطنين الصهاينة في مكانه، والتي بدأت من خلال تطهير عرقي منظم وسريع وواسع النطاق بين خريف 1947 وربيع 1948، مضت في ما بعد على «وتيرة هادئة»، وهي مستمرة إلى اليوم. قاوم الشعب الفلسطيني منذ بداية الصراع ببسالة وتصميم نادرين التطهير العرقي، وما زال يقاومه، غير أن ما حكم مآلاته في العقود الماضية كان ميزان القوى الإجمالي، الدولي والإقليمي والمحلي، المختل لصالح كيان وظيفي، نشأ، واستمر، وتعاظمت قوته، برعاية الإمبرياليات الغربية المهيمنة على المنطقة والعالم. حالة الهلع، وليس القلق، الوجودي، التي تجتاح الكيان، قيادة ومستوطنين، نتيجة إدراك التحولات الجارية في موازين القوى المذكورة، هي التي تفسر قراره بتسريع التطهير العرقي مجدداً، والتي يأتي في سياقها التوحش الراهن في عمليات التنكيل بالفلسطينيين لطردهم من بيوتهم وأحيائهم، كما يحصل في حي الشيخ جراح للمثال لا الحصر، ومحاولة الاستيلاء على المسجد الأقصى، والعودة إلى سياسة القتل العمد للترويع، والتي تجلت باستشهاد الصحافية المناضلة شيرين أبو عاقلة. لقد أوضحت معركة «سيف القدس»، التي توحّد فيها الشعب الفلسطيني في أراضي 1948 والقدس والضفة وغزة، واستخدم جميع أساليب النضال من الحجر إلى الصاروخ، وحظي بدعم أركان محور المقاومة وبتضامن هائل في أرجاء المعمورة، بينما طغى التخبط والإرباك على أداء القيادة الصهيونية وحلفائها في الغرب، حقيقة هذا التحول. إضافة لذلك، وإذا أخذت في الاعتبار عوامل وازنة أخرى، كالتوجه الأميركي للتخفف من «أعباء الشرق الأوسط» وهو اتجاه سيتعزز مع الحرب في أوكرانيا، واشتداد المنافسة الاستراتيجية مع الصين، وانعكاساته على معادلات القوة في الإقليم، فإن الاستنتاج الذي يفرض نفسه هو أن جميع عناصر هذا المشهد الدولي والإقليمي والمحلي توفر أرضية خصبة لاحتدام المواجهة في فلسطين بين شعبها وقواه المقاومة من جهة، والمشروع الاستيطاني الإحلالي من جهة أخرى. وما سلسلة العمليات «الفردية» التي وقعت في أنحاء فلسطين سوى مؤشر آخر على هذا الاحتدام، حيث ينفذ مقاومون، بمبادرة ذاتية في معظم الحالات، حكم الشعب بجنود الاحتلال ومستوطنيه.
آخر قلاع هيمنة آفلة
أي نقاش لتاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني وتطوراته المحتملة في المستقبل بمعزل عن موازين القوى الدولية والإقليمية سيصل إلى خلاصات عديمة الصلة بواقعه. فمن اللحظة الأولى، أي منذ بداية الاستيطان الصهيوني في فلسطين بإشراف بريطاني، وطوال المراحل التي تلت، وصولاً إلى يومنا هذا، نحن أمام غزوة صهيونية-غربية مشتركة، تشكل امتداداً لغزوات الغرب لبقية بقاع المعمورة. النكبة كانت نتاجاً للهيمنة الغربية على المنطقة والعالم، ودعم أقطابها اللامحدود، وفي جميع الميادين، للصهاينة، وجميع الحروب التي شنها هؤلاء في ما بعد، اندرجت في سياق استراتيجية ترسيخ وتوسيع هذه الهيمنة. التراجع التدريجي، ولكن المستمر، لهذه الهيمنة بفعل عوامل عدة داخلية وخارجية، وأبرزها التنافس الاستراتيجي المستعر مع الصين وروسيا، الذي يترجم حالياً حرباً على الساحة الأوكرانية، واضطرار الولايات المتحدة لإعادة جدولة أولويات جدول أعمالها الدولي بفعل ذلك، هو تحد بالغ الخطورة بالنسبة للكيان الصهيوني. إدارة بايدن ما زالت على التزامها بـ«ضمان التفوق الاستراتيجي النوعي»، وفقاً لتعبيرها، للكيان، غير أن دينامية النزاعات الدولية الراهنة وتلك المقبلة، وما تتطلبه من تعبئة للموارد والطاقات ستحد موضوعياً من قدرتها على مساندة ورعاية الحليف العضوي.
النكبة كانت نتاجاً للهيمنة الغربية على المنطقة والعالم، ودعم أقطابها اللامحدود، وفي جميع الميادين، للصهاينة

وتعطي الحرب في أوكرانيا مثالاً جديداً على ضمور نفوذها وسيطرتها، إذ هي لم تستطع إلزام حتى حلفائها «التاريخيين» في بلدان الجنوب، كدول الخليج، أو المستجدين، كالهند أو حكومة بولسنارو في البرازيل، على الانحياز لها ضد روسيا. الولايات المتحدة تضعف، وهذه كارثة استراتيجية بالنسبة لإسرائيل. هي لم تنجح أيضاً رغم حروب التدمير التي شرعت بها في هزيمة أطراف محور المقاومة في الإقليم، التي ضاعفت من قدراتها العسكرية النوعية وبات تدخلها لمساعدة المقاومة في فلسطين سياسة رسمية، كدعوة مرشد الجمهورية الإسلامية لتسليح الضفة الغربية وإعلان السيد حسن نصرالله أن المساس بالمسجد الأقصى يعني حرباً إقليمية. البيئة الدولية والإقليمية المتغيرة هي أول دواعي أرق قادة الكيان.

شعب فدائي لا «ذئاب منفردة»
طغيان اليمين القومي والديني على المسرح السياسي الصهيوني هو بين دوافع الانتقال من سياسة التطهير العرقي والاستيطان التدريجي و«الهادئ» إلى التوحش المنفلت من عقاله. غير أن ما يزيد من هذا التوحش هو الشعور العميق بأن الزمن لا يعمل لصالح الكيان. عبّر إيهود باراك، الذي يعكس مزاج قطاع معتبر من النخبة السياسية والعسكرية الصهيونية، عن هذا الشعور عندما أعرب عن خشيته من عدم وصول الكيان إلى عتبة الـ80 سنة، على الرغم من تركيزه على التهديد المتمثل بانقساماته الداخلية وليس على التحديات «الخارجية». تشي هذه الانقسامات في الحقيقة بانهيار «النموذج الصهيوني» الذي تأسس الكيان على قاعدته، وتشظي المجتمع الاستيطاني بين تيارات الهوية القومية والدينية المختلفة، والقاسم المشترك شبه الوحيد في ما بينها هو استكمال التطهير العرقي. قد تكون أبرز دلالات معركة «سيف القدس» هي تنامي مقاومة الشعب الفلسطيني للتطهير العرقي، والدمج بين جميع أساليب النضال لهذه الغاية. وبما أن القدس والضفة الغربية هما اليوم الساحة المركزية لهذه المعركة، فإن تصاعد المواجهات الشعبية والمسلحة مع الاحتلال، وتشكُّل بؤر محررة لفصائل المقاومة، كمخيم جنين مثلاً، هي محطات هامة على طريق انتفاضة جديدة. وفي مثل هذه الظروف، فإن العمليات الفدائية «الفردية» ضد الصهاينة، المتتالية في الأسابيع الماضية، ليست من فعل «ذئاب منفردة»، بحسب التعبير الغربي الشائع، والتي تكون عادة عناصر معادية لمحيطها، بل تعبّر عن تبلور ظاهرة نضالية جديدة ضد الاحتلال، وهي ظاهرة المقاوم الذي يحظى باحتضان شعبه ويعتبر نفسه ذراعه المسلحة. نحن أمام امتداد لانتفاضة السكاكين التي انطلقت في 2015، واعتقد البعض أنها انتهت. التصدي لمشروع النكبة الدائمة هو عنوان المرحلة بالنسبة للشعب الفدائي.