لخّص السفير الإسرائيلي في واشنطن، مايك هرتسوغ، التحدّي الرئيس الذي تواجهه إسرائيل في ما يتّصل بإيران، بأن أيّ اتفاق مع الأخيرة لن يضعها في صندوق «ما لم يكن هناك ردع جادّ تجاهها»، معرباً عن أمله، في مقابلة مع صحيفة «واشنطن بوست»، بأن يرى هذا الردع متحقّقاً «مع أو بدون اتفاق». أهمّية هذا التشخيص تنبع من كونه يأتي في ظلّ وصول المفاوضات النووية إلى محطّة مفصلية، ستَعقبها إمّا العودة الى الاتفاق ضمن الخطوط الحمراء الإيرانية، أو إعلان عن فشلها، ولكلّ من النتيجتين تداعياتها الاستراتيجية على البيئة الإقليمية. أيضاً، تتمثّل أهمية تقدير هرتزوغ في أنه يتمحور حول إحدى أهمّ القضايا المطروحة على طاولة منتدى الحوار الاستراتيجي بين تل أبيب وواشنطن، والذي يشكّل هو أحد أعضائه. مع ذلك، ليس تشخيصه جديداً، بل كان حاضراً منذ السنوات الأولى لولاية بنيامين نتنياهو التي استمرّت من عام 2009 إلى عام 2021، حيث اعتبر الأخير، في إحدى المناسبات، أنّ المشكلة تكمن في أنّ ايران لا تصدّق تهديدات الولايات المتحدة وإسرائيل، في إشارة إلى ثقتها بارتداعهما عن الخيارات العسكرية المباشرة ضدّ منشآتها النووية. شيئاً فشيئاً، تعزّز حضور ذلك التقدير، توازياً مع تزايد القلق الإسرائيلي من المسار التصاعدي الذي تسلكه إيران، وتحديداً بعدما تجاوزت القيود التي يفرضها الاتفاق النووي عليها، ردّاً على خروج الولايات المتحدة منه وفرضها عقوبات جديدة عليها، وأيضاً في ظلّ تمسّك الأولى بخطوطها الحمراء، وعدم إبدائها أيّ استعداد لتقديم تنازلات جوهرية تتّصل بنشاطاتها النووية والعسكرية والإقليمية. ولعلّ مفاوضات فيينا نفسها تمثّل، في وجه من وجوهها، أحد تجلّيات قوّة الردع الإيرانية تلك، وإلّا لما كان المعسكر الغربي مستعدّاً للتفاوض مع طهران من موقع الندّية. ومن هنا، تُجاهر إسرائيل بانتقاد أداء الولايات المتحدة، انطلاقاً من كونه «مُسلِّماً» بواقعيّة هذه الصورة، الأمر الذي يدفع الأميركيين إلى التمسّك بالخيار الدبلوماسي، وتجنُّب استفزاز إيران أو تفعيل الخيار العسكري في وجهها. وفي هذا الإطار، يأتي حديث هرتسوغ ليُعبّر عمّا يدور من مداولات بين الجانبَين، ويكشف، كما مواقف بقيّة المسؤولين الإسرائيليين، عن أنّ الهمّ الأساسي لتل أبيب اليوم هو كيفية ردع طهران وتحجيمها داخل حدودها، وهو ما لن يكون ممكناً بمجرّد العودة إلى الاتفاق النووي، إلّا إذا استندت الصفقة إلى قوّة ردع جادّة، مطلوبٍ تحقيقها باتّفاق أو من دونه، حتى يكون بالإمكان إعادة المارد الإيراني إلى القمقم.
ولكون هذه القضية هي الأهمّ التي يتمّ التداول بها بين الطرفَين الأميركي والإسرائيلي، سأل وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، على هامش «لقاء النقب» قبل أسابيع، عن بديله للاتفاق النووي وكيفية منع إيران من امتلاك القدرة على إنتاج سلاح نووي، بعدما بلغ تطوّرها مرحلة يمكنها فيها فعل ذلك لو أرادت في غضون أسابيع معدودة. من الواضح أن السؤال الأميركي أصاب نقطة الضعف الإسرائيلية - والأميركية أيضاً -، خاصة بعد فشل خطط المراحل السابقة في تحقيق النتائج المؤمَّلة، والذي دفع إسرائيل في هذه المرحلة إلى محاولة تحسين صورتها الردعية - ولو نسبياً -، عبر الإعلان عن خطط جهوزية وامتلاك قدرات جوّية وصاروخية تُمكّنها من توجيه ضربات إلى إيران. مع ذلك، فقد كان بينت صريحاً في جوابه، برمْيه الكرة في الملعب الأميركي والغربي؛ إذ أقرّ بأن المسألة تتجاوز قدرة إسرائيل، معتبراً أن ثمّة حاجة إلى فرْض عقوبات قاسية جماعية مِن مِثل تلك المفروضة على روسيا بعد غزوها ​​أوكرانيا، محذّراً من أنّ إسرائيل هي التي ستتلقّى تداعيات الاتفاق النووي، كونه سيتضمّن رفع العقوبات على نحو سيساهم في تعزيز اقتصاد إيران ومكانتها الاستراتيجية، وسيكرّس التكيّف الدولي معها بوصْفها قوّة إقليمية تفرض سقوفها الخاصة بها.
على رغم ما تَقدّم، ليست معادلة الردع هذه صِفرية أو كاملة، كما أنها ليست حالة ثابتة بالضرورة، بل قد تتأثّر بالعديد من المتغيّرات التي قد تساهم في تبديل تقديرات أحد أطرافها وخياراته، وبنسب متفاوتة. ولذا، قد تُسجَّل في المرحلة المقبلة مستويات من المواجهة بين طرفَين أو أكثر، من دون أن يخلّ ذلك بأصل وجود الردع، كما قد يحاول أحدهم توسيع هامش المبادرة والردّ لديه، مع الالتزام بسقوف معيّنة. لكن تجربة أكثر من عقدَين أثبتت أن الضربات الموضعية التي تبقى تحت سقف الردع الإيراني، لم تنجح في كبح طهران في المجالات التي تشكّل خطراً على الأمن القومي الإسرائيلي، من البرنامج النووي إلى الصواريخ إلى النفوذ الإقليمي. وفي السياق نفسه، تَحضر حقيقة أن أيّ رئيس أميركي لم يجرؤ على تبنّي خيار دراماتيكي عسكري مباشر ضدّ المنشآت النووية الإيرانية. ومع أنّ الانتقادات أكثر ما تتركّز في هذه المرحلة ضدّ إدارة جو بايدن، إلّا أنّ الواقع الذي تدركه مؤسّسة القرار الإسرائيلية، هو أنّ كلّ الإدارات الأميركية تجنّبت الخيار العسكري المباشر بوجه إيران، بدءاً من جورج بوش، مروراً بباراك أوباما وحتى دونالد ترامب (باستثناء اغتيال قائد «قوّة القدس» قاسم سليماني)، وصولاً إلى الإدارة الحالية، وهو ما يؤشّر إلى أنّ هذا الارتداع ليس مسألة ظرفية، وإنّما هو قرار المؤسّسة الأميركية بالاستناد إلى تقديرات الكلفة والجدوى. وهكذا، فإنّ الفشل لم يقتصر على الطرف الإسرائيلي الذي نجحت إيران وحلفاؤها في فرْض طوق صاروخي حوله يمتدّ من لبنان إلى غزة، بل شمل أيضاً الطرف الأميركي الذي لم تنجح جميع سياساته، بما فيها الحرب الاقتصادية غير المسبوقة، في ثني طهران عن ثوابتها.