هل يؤسّس استهداف المشروع الكولونيالي الإحلالي الصهيوني للمسجد الأقصى، أولى القبلتَين وثالث الحرمين الشريفين، لحرب دينية مع المسلمين؟ لا تكتفي مشاريع الاستعمار الإحلالي بقتل السكّان الأصليين وتشريدهم وإفنائهم إن أفلحت في ذلك. هي تسعى، أيضاً، إلى محو أثرهم المادّي والمعنوي والثقافي، أو للاستيلاء عليه إن أمكن، وضمّه إلى سرديتها التاريخية والثقافية. هذا ما تُظهره جميع تجارب الاستعمار الاستيطاني الإحلالي في الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا مثلاً، والتي ألهمت المشروع الصهيوني. لكن اختلاف السياقات التاريخية والجيوسياسية لم يسمح للأخير بالإجهاز على السكّان الأصليين، أي شعب فلسطين، كما حصل في الحالات السابقة، على الرغم ممّا تعرّض ويتعرّض له من تطهير عرقي، محتدم أو هادئ، ومن احتلال وقتل وتنكيل يومي. والسبب الرئيس في ذلك، إضافة إلى صمود ومقاومة هذا الشعب، هو أن الكيان الصهيوني اصطدم بمقاومة شعوب الفضاء العربي والإسلامي وقواها وأنظمتها الوطنية له.وعلى الرغم من استسلام عدد كبير من الأنظمة العربية اليوم أمام الكيان، وذهاب بعضها إلى حدّ التحالف معه، فإن رفض القطاع الأعظم من الشعوب العربية، ومعها شعوب العالم الإسلامي، له، ودعمها لخيار المقاومة، كما أوضحت معركة «سيف القدس»، هي من بين الوقائع الصلبة التي لم تقوَ أجهزة الدعاية الغربية والخليجية على نفيها. يستخدم قادة الكيان، راهناً، الجماعات اليهودية المتطرّفة وقطعان المستوطنين لاستكمال مسار التطهير العرقي عبر استباحة المسجد الأقصى، تمهيداً للاستيلاء عليه، بمسوّغات دينية. بكلام آخر، هم يَشرعون بحرب دينية لتحقيق أهداف سياسية، وتلك كانت أبداً وظيفة الحروب الدينية التي تشنّها الدول عبر التاريخ، والتي أدّت دوماً إلى استفزاز واستنفار الانتماء الديني لدى الشعوب المستهدَفة بها.
قضية فلسطين لا تعني المسلمين وحدهم، هي قضية شعب يقاوم استعماراً استيطانياً


التذكير ببعض الحقائق البديهية ضروري لتجنّب خوض نقاشات لا طائل منها حول مخاطر التركيز على البعد الديني في الصراع الدائر في فلسطين حالياً. قضية فلسطين لا تعني المسلمين وحدهم، هي قضية شعب يقاوم استعماراً استيطانياً يندرج في إطار استراتيجية الهيمنة الغربية على المنطقة العربية والإسلامية. التضامن، وحتى التماهي، الواسع النطاق على صعيد عالمي مع شعب فلسطين يعود إلى كون قضيته تختصر وتُكثّف جميع القضايا السياسية الكبرى التي ما زالت مطروحة على نطاق الكوكب. فإضافة إلى كونها مقاومة لآخر أشكال الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، هي تتضمّن كذلك نضالاً ضدّ التمييز والفصل العنصريَين اللذين يمارسهما الكيان الصهيوني، ومجابهةً لسياسات الهيمنة والحرب المعتمدة من قِبَل القوى الإمبريالية الغربية ضدّ شعوب الجنوب. من النادر أن تمتّعت قضية تحرّر وطني، حتى في أوج المعارك ضدّ الاستعمار في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بالدعم والتأييد الذي تحظى به القضية الفلسطينية بين شعوب العالم، بما فيها شعوب الغرب. مَن يذكر مشاهد التظاهرات التي اجتاحت المدن الأميركية والأوروبية، ومدن العالمَين العربي والإسلامي وأميركا اللاتينية وأفريقيا خلال معركة «سيف القدس»، يوقن ذلك.
لا نقول شعراً عندما نؤكد أن قضية فلسطين هي قضية كلّ مستضعف في العالم، ومَن يشكّ في ذلك عليه تفسير تماهي قطاعات معتبرة من الأفارقة الأميركيين مثلاً معها، ومشاركتهم في الفعاليات المؤيدة لها في داخل وخارج الولايات المتحدة. لكن هذه الحقائق جميعها لا تنفي وجود بعد إسلامي للقضية الفلسطينية، يرتبط بموقع القدس الديني والروحي عند المسلمين، وسعي الصهاينة لضمّها وتهويدها. تهويد أولى القبلتَين هو إعلان حرب على أكثر من مليارَي مسلم - بحسب إحصاءات 2021 - على مستوى المعمورة. وبينما يدافع أهل فلسطين عنها باللحم الحيّ في مواجهة الصهاينة المدجّجين بالسلاح، فان أمّة المليارَين تستطيع الكثير ضدّ مَن يرعى ويحمي ويسهّل التهويد، أي الولايات المتحدة الأميركية. لا بدّ من تسمية الأمور بأسمائها، ومواجهة هذه الحرب الدينية الإسرائيلية - الأميركية دفاعاً عن الأقصى والقدس وفلسطين.