دخل السودان في العام الرابع بعد سقوط الرئيس السابق، عمر البشير، وسط دعوات متكرّرة إلى التظاهر (6 و11 نيسان الجاري تحديداً) حظيت باستجابة شعبية محدودة نسبياً، بينما واصل «مجلس السيادة» مساعي القفز فوق المسار الانتقالي الراهن، بالتزامن مع أحكام قضائية قضت ببراءة عدد من رموز نظام البشير من تهمة التآمر على المرحلة الانتقالية والإفراج عنهم. واعتُبرت تلك التطوّرات مؤشّراً دالّاً على أهمّ ملامح ما تبقّى من المرحلة الانتقالية، المقرَّر إتمامها منتصف العام المقبل، بحسب تأكيدات رئيس «السيادي»، عبد الفتاح البرهان، نفسه في أكثر من مناسبة، وإعلانه عزمه القيام بعدّة خطوات لتهيئة المجال أمام حوار وطني سوداني شامل، ينتهي بتسليم الجيش السلطة لحكومة منتخَبة.
الحراك الشعبي... واستنفاد التأثير؟
استبقت «القوى الثورية» التظاهرات الأخيرة التي جرت على مرحلتَين، بوضع حزمة مطالب ارتكزت على رفض التفاوض مع الجيش، ومطالبته بـ«تسليم السلطة الفوري لحكومة مدنية كاملة»، و«إسقاط المجلس العسكري الانقلابي، وتقديم أعضائه لمحاكمات فورية وعادلة»، فضلاً عن العودة إلى الوثيقة الدستورية (آب 2019) وأطرها الزمنية لتقاسم السلطة بين العسكريّين والمدنيّين، ورفع حالة الطوارئ. وفي المقابل، استبق الجيش هذا الحراك بنشاط إقليمي ربّما يكون الأكبر منذ عزل البشير، بعدما أجاد توظيف مكوّنات المعارضة المسلّحة السابقة المشارِكة في الحُكم حالياً للعب أدوار داخلية وخارجية مهمّة لصالح رؤية «مجلس السيادة». كما واصل البرهان جهود الدفع برؤيته للمرحلة الانتقالية، بإطلاق وعود بالتهدئة السياسية، والإفراج عن جميع المعتقلين المدنيّين (أغلبهم من عناصر التيار الإسلامي)، وتقليص حالة الطوارئ الحالية. وما بين انقلاب يسعى لتعزيز سلطته، و«ثورة» تقوم بإعادة إطلاق ذاتها، في موقف غير مسبوق في تاريخ السودان، يرى خبراء ومحلّلون مؤشّرات كثيرة إلى فشل «الثورة»، في ظلّ تراجع حالة الديموقراطية، وملفّات مِن مِثل حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والاقتصاد.

الجيش وعراقيل إدارة المرحلة
كشف خطاب البرهان الأخير بخصوص مستقبل المرحلة الانتقالية، عن استحكام الأزمة السودانية على الصعد السياسية والاقتصادية والعسكرية، على رغم أن إبداءه استعداده لتسليم السلطة لحكومة «تتّفق عليها الأحزاب السياسية»، يُعدّ خطوة متقدّمة عن تأكيده السابق نزوعه إلى استكمال المسار الانتقالي وصولاً إلى انتخابات ديموقراطية، من دون وجود ضمانة حقيقية بالتزامه تعهّداته قبل منتصف العام المقبل. ولا تزال أمام «مجلس السيادة»، حتى في حال التوصّل إلى تفاهم سياسي مع أطراف الأزمة ولا سيّما «القوى الثورية» منها، عدّة عراقيل في ضبط مسار المرحلة الانتقالية، تتصدّرها الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يُتوقَّع تصاعدها في ظلّ تحفّظ «المجتمع الدولي» عن استئناف مسار إعفاء السودان من ديونه (التي قُدِّرت في نيسان الجاري بستين بليون دولار)، وتجاوز التضخم نسبة 250%، مع تزايد تراجع قيمة الجنيه السوداني مقابل الدولار، وارتفاع أسعار سلّة السلع الأساسية بأكثر من 30%. وعلى رغم الدعم الإقليمي الكبير الذي حظي به البرهان أخيراً، فإن الأزمة الاقتصادية ستدفع حلفاءه، بحسب مراقبين، إلى السعي للتوصّل إلى «هبوط ناعم» لانقلاب تشرين الأول، عبر ترضية معقولة لـ«القوى الثورية». كما تظلّ بعض الملفّات الداخلية عالقة أمام سلاسة إدارة البرهان للمرحلة الانتقالية، ومنها ملفّ شرق السودان ضمن مخرجات «اتفاق جوبا للسلام». وسيمثّل أيّ نجاح لنائب رئيس «مجلس السيادة»، محمد حمدان دقلو (رئيس اللجنة العليا لمعالجة قضايا شرق السودان)، في هذا الملفّ، قوّة دفع كبيرة للبرهان. وعلى رغم الانتقادات العشائرية التي تُوجّه بين الحين الآخر إلى أداء دقلو، فإنه واصل منتصف نيسان الجاري مشاورات مهمّة مع عدد من ممثّلي العشائر في الإقليم، انتهت إلى التعهّد بخطوات سريعة وحاسمة مطلع أيار المقبل.
كشف خطاب البرهان الأخير بخصوص مستقبل المرحلة الانتقالية، عن استحكام الأزمة على الصعد كافة


الأزمة ومبادرات التسوية
عزّز الحضور الدبلوماسي السوداني في الأسابيع الأخيرة، وعجز الحراك الشعبي في النصف الأول من نيسان الجاري عن فرض خياراته مرحلياً، فرضية وجود تنسيق ومشاورات وتطمينات بشأن العام المتبقّي من المرحلة الانتقالية، ووضع أطراف إقليمية مسألة وحدة الجيش السوداني ودوره في صيانة استقرار الدولة والانتقال السياسي كأولوية قصوى. ولم يقتصر الدعم على الدول العربية، بل نشطت إريتريا في الأسبوع الأخير، عبر تقديم مبادرة (طرحها وزير الخارجية الإريتري، عثمان صالح، والمستشار السياسي للرئيس أسياس أفورقي، يمين جربريب، خلال زيارتين للخرطوم في11 و16 نيسان) لسدّ الفجوات في الرؤى بين أطراف الأزمة السياسية، فيما عبّرت أسمرا، في موقف جديد نسبياً وذي دلالة في ضوء صلتها بملفّ إقليم شرق السودان المجاور لحدودها، عن تضامن حكومتها مع البرهان في جهوده لتجاوز الأزمة الحالية.
وبينما يواصل الجيش تحضيراته للعام المتبقّي (رسمياً)، وسط تودّد البرهان إلى قوى الإسلام السياسي في مسار وصفه بـ«ضرورة تقديم الجميع التنازلات»، تواجه «القوى الثورية» تحدّيات عميقة، ربّما تدفع بعضها إلى إعادة ترتيب أوراقها لخوض غمار الحياة السياسية، والاستعداد «لأيّ انتخابات ديموقراطية». وفي مؤشّر ملفت في هذا الإطار، رحّبت «الجبهة الثورية»، بقيادة الهادي إدريس، بخطاب البرهان «التصالحي»، ولا سيّما أنه جاء عقب «مبادرة وطنية» تَقدّمت بها إلى الأخير قبيل منتصف نيسان الجاري، «لإدارة حوار شامل» يقوم على أساس الاعتراف بالشراكة بين المكوّن العسكري وكافّة المكوّنات السياسية الأخرى «لإدارة المرحلة الانتقالية». ومثّل موقف الجبهة تراجعاً عن شعار رئيس رفعته تظاهرات 6 و11 نيسان الماضي، برفض أيّ حوار مع الجيش. كما عبّرت الجبهة (17 نيسان) عن أملها في قيام دول عربية بمواصلة دعم السودان، والمشاركة في «عملية الحوار المتوقّع انطلاقها قريباً»، ما قد يُشير إلى حدوث تقدّم ملموس في مسار تبنّي المبادرة وتوسيعها لاحقاً.

خلاصة
تكشف قراءة المشهد السوداني عن نجاح المكوّن العسكري في حلحلة عدد من ملفّات السياسة الداخلية، لكن تظلّ قدرته على مواجهة التداعيات الخطيرة للأزمة الاقتصادية المستحكمة، وتفادي عودته إلى حالة العزلة السياسية والمالية الدولية، محكومة إلى حدّ كبير بقراءة واقعية لقدرة «الشركاء» الإقليميّين على مواصلة دعمه، من دون وجود خطط واضحة وعملية لتسوية الأزمة السياسية. وفي المقابل، فإنّ إخفاق الحراك «الثوري» في تحقيق أهدافه منذ تشرين الأول 2021، يؤشّر إلى واقعية قبول «مبادرة الجبهة الثورية»، على الأقلّ كنقطة بداية في حوار وطني شامل قد يستنفد الشهور المتبقّية حتى نهاية المرحلة الانتقالية، مع الأخذ في الاعتبار أنّ العودة المرتقبة لتيار الإسلام السياسي إلى المعترك، قد تُحجّم بشكل كبير القدرة التفاوضية لـ«القوى الثورية» في أيّ حوار وطني قادم، مقابل رفد المكوّن العسكري بفرص وفيرة لفرض أجندته وتصوّراته لمستقبل الدولة السودانية.