تُواجه إسرائيل تحدّياً أمنياً قد تكون مركّباته غير مسبوقة في العقود الأخيرة من تاريخ الصراع مع العرب: موجة عمليات يقودها فلسطينيون ضدّ الاحتلال، فيما أحد أبرز محفّزاتها هو الإجراء العقابي نفسه الذي يسعى من خلاله العدو لمنع العمليات. معضلةٌ تغذّي نفسها بنفسها، من دون آفاق حلّ منظورة. وفقاً لتقدير الاستخبارات الإسرائيلية، المرجّح أن تتواصل الهجمات، وإن كانت تل أبيب تأمل الحدّ منها، من خلال سلسلة إجراءات، يتعذّر حصْر التعقيدات التي تمنع العدو من الذهاب بعيداً فيها. وإلى جانب تلك التعقيدات، تأتي الإشكالية الإسرائيلية المتمثّلة في التركيز، في «المعالجة»، على الحوافز بدلاً من الدوافع، والأولى ظرفية ومتغيّرة، بينما الثانية، وهي الأصل، ثابتة ولا تكاد تتبدّل، والمقصود بها أصل وجود الاحتلال، بما يعنيه من سلب للحق والهُوية، وسياساته الاستيطانية الإحلالية العنصرية. على أن مسألة التعامل مع الحوافز نفسها لا تبدو مضمونة من الجهات كافّة.على مستوى مبدأ «الردع عبر العقاب»، لا تكتفي إسرائيل بقتْل منفّذي العمليات حتى لو لم يتمكّنوا من إتمامها، بل تعمل على معاقبة كلّ من يحيط بهم، عبر هدم منازل ذويهم، واعتقال آبائهم وإخوتهم والتنكيل بهم، وسلبهم مواردهم المالية، وتغيير ظروفهم إلى الأسوأ على كلّ صعيد. كما يطاول هذا العقاب الجماعي البلدة أو المدينة بأكملها التي ينطلق منها المنفّذ، خاصة في الأراضي المحتلّة خارج الخط الأخضر، وهو ما يمثّل استراتيجية إسرائيلية ثابتة في مواجهة العمليات الفدائية، وإن كانت الهجمات الأخيرة حملت عنصراً مغايراً، كونها نُفّذت من دون أيّ توجيه أو قيادة من تنظيمات فلسطينية مقاوِمة. ويُضاف إلى تلك السياسة، الدور الوظيفي الذي تضطلع به الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، والموكَلة بتحقيق ما يعجز عنه الاحتلال، أو يمكن أن يتسبّب له بأثمان وخسائر عملياتية، إضافة إلى دورها في تحصيل المعلومات الاستخبارية عن المقاومين، لصالح العدو.
إلّا أنه في الموجة الأحدث من العمليات، شخّصت إسرائيل عوامل إضافية لم تكن مرصودة في السابق، كما في هجمات الطعن والدهس الارتجالية. فالهجمات الأخيرة نفّذ جزءاً منها فلسطينيون من الداخل، أي من حاملي الهوية الإسرائيلية، يجمع بينهم ما يُسمّى إسرائيلياً «التعصّب الديني»، والتماهي بقدْر أو بآخر مع جماعات إسلامية تحمل «فكراً متطرّفاً»، مع التشديد في المقاربة الإعلامية على حضور تنظيم «داعش»، بهدف خدمة استراتيجية الاحتلال في أكثر من اتجاه. أمّا الجزء الآخر، فقد نفّذه فلسطينيون انطلقوا من شمال الضفة الغربية المحتلة، وتحديداً من منطقة جنين، وهو ما يمثّل تحدّياً مركّباً بالنسبة إلى إسرائيل، لعدّة أسباب أهمّها ما يلي:
أوّلاً: تُعدّ جنين منطقة خارجة نسبياً عن السطوة الأمنية لأجهزة السلطة الفلسطينية، لأسباب يصعب حصرها، من بينها تراجع تأييد السلطة حتى داخل تنظيم «فتح»، سواءً في المخيم أو المدينة أو القرى المحيطة. ويعبّر هذا التراجع عن نفسه في فقدان القدرة على التحرّك والتحكّم والجمع الاستخباري لمصلحة الاحتلال، كما تسهيل مهامّه والتمهيد لها.
ثانياً: تُعدّ «حركة الجهاد الإسلامي» هي الجهة التي تستقطب الشبّان الفلسطينيين في هذه المنطقة، وتحديداً من المنشقّين عن «فتح»، أو من المتململين من أداء السلطة، وهو ما أتاح توفير وسائل قتالية في المخيم ومحيطه، بمستوى بات يدعو الاحتلال إلى القلق، خصوصاً أن «الجهاد» تنظيم لا يُستهان به، عدداً وعتاداً.
تُعدّ جنين منطقة خارجة نسبياً عن السطوة الأمنية لأجهزة السلطة الفلسطينية


ثالثاً: منطقة جنين، التي تقع في شمال الضفة المحتلة، قريبة جدّاً من وسط إسرائيل، حيث الوجود «المديني» للعدو، بما يشمل غوش دان وفي وسطها تل أبيب. وأهمية هذا المعطى أنه يؤكد وجود ثقوب في الجدار الأمني - على اختلاف أشكاله - في هذه المنطقة، ما أتاح للفلسطينيين الانتقال من وإلى أراضي عام 1948 بسهولة نسبية، لأغراض وأهداف مختلفة، ليس في أساسها شنّ عمليات.
بناءً على ما تَقدّم، يمكن القول إنه باتت متعذّرة على الاحتلال مباشرة عقابه الجماعي ردّاً على العمليات التي ينطلق منفّذوها من جنين، حيث تتصدّى «الجهاد» بنفسها لتأمين عائلات الشهداء من الأذى الجسدي والمادّي وكذلك الاقتصادي، وهو ما يثقب الاستراتيجية العقابية الإسرائيلية، ويهشّم فاعليتها، ويحوّل جنين ومخيّمها إلى نموذج للمحاكاة، وهنا الأخطر بالنسبة إلى إسرائيل. كما أن ضعف السلطة البنيوي، والرفض الجماهيري لها، يلزمان العدو بالعمل مباشرة في المخيم والمدينة والمناطق المحيطة بهما، الأمر الذي يعني مزيداً من الاحتكاك مع الفلسطينيين، والذي قد يحفّز بدوره على تنفيذ مزيد من العمليات، ناهيك عن التهديد المتمثّل في إمكانية سقوط خسائر بشرية إسرائيلية، ولا سيما أن صور اقتحام المخيم عام 2002، والذي كبّد الاحتلال خسائر بشرية بالعشرات، لا تزال ماثلة في الذاكرة الإسرائيلية. يُضاف إلى ما تَقدّم، أن أيّ ردّ موسّع يستبطن خطر جرّ قطاع غزة إلى المواجهة، على غرار ما جرى في معركة «سيف القدس» العام الماضي.
كيف يمكن للاحتلال تحقيق مطلبه إذاً؟ لا يبدو أن لدى إسرائيل، إلى الآن، خطّة بديلة، باستثناء تحويل والد الشهيد رعد حازم، إلى هدف استراتيجي أوّل، يكاد يصبح الشغل الشاغل لأجهزة العدو الأمنية والعسكرية، على رغم أنه، من ناحية واقعية، يُفترض أن يكون مجرّد هدف تكتيكي. لكن، إذا كان من المتعذّر الوصول إلى والد الشهيد، فكيف بأهداف إسرائيل الأخرى المتعلّقة بحوافز العمليات، وعلى رأسها تحوُّل مخيّم جنين الذي يسمّيه الاحتلال «عشّ الدبابير»، إلى قِبلة للمقاومين ونموذج مُلهم لهم؟