في البحث عن الإمكانيات المتوفّرة لحلّ مشكلة تمرّد محمد بن سلمان، داخل الحزب الديموقراطي، لا يسقط احتمال أن تلجأ واشنطن إلى دعم تغيير في قمّة هرم السلطة في المملكة، وفق معلومات ينقلها معارضون سعوديون. ويؤكد هؤلاء أنّ بعض الديموقراطيين يطالبون بأن تتبنّى أميركا، رسمياً، عملية تغيير سياسي في السعودية، استناداً إلى ما تملكه من أدوات كثيرة لذلك، أمنية وعسكرية ومخابراتية، إضافة إلى أخرى داخل الأسرة الحاكمة، وثالثة خارج المملكة. ويدور النقاش على خلفية توجُّس الديموقراطيين من تأثيرات حَرَد وليّ العهد السعودي، ونظيره الإماراتي محمد بن زايد، على الانتخابات الأميركية، سواءً النصفية في تشرين الثاني المقبل، أو تلك التي تجري عام 2024 وتشمل الرئاسة، خاصة أنّ الجمهوريين يستغلّون الخلافات بين الرئيس جو بايدن وبعض قادة الخليج، مستفيدين من ارتفاع أسعار النفط وتأثيرها على حياة الأميركيين اليومية، كما على الاقتصاد الأميركي. وتُراوح المواقف بين مَن يدعو إلى فرض عقوبات على ابن سلمان، ومَن يقول بالعمل على تهدئة مخاوفه. لكن يتكشّف أنّ ما يرضي وليّ العهد السعودي ونظيره في الإمارات، لا يقلّ عن العودة عن كلّ السياسات التي اعتمدتها الولايات المتحدة خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، ناحِيةً في اتّجاه الخروج من التورّط المباشر في الصراعات المكلفة في الشرق الأوسط، بل يتعدّى ذلك إلى توريطها في الصراعات الداخلية للبلدين، وهو ما لا يستطيع الغرب حياله فعل أكثر من السكوت عن الجرائم، كما حصل بعد إعدام 81 شخصاً في السعودية في يوم واحد الشهر الماضي، كلّهم لأسباب سياسية.ما لا جدال فيه أنّ العلاقة بين واشنطن وكلّ من أبو ظبي والرياض تقبع في الحضيض حالياً. لكن التوتّر ليس جديداً، بل هو آخذ في التزايد منذ «الربيع العربي» عام 2011، حين اعتقدت أنظمة الخليج أنّ الولايات المتحدة وقفت مع «الإخوان المسلمين» الذين كانوا يريدون إسقاط تلك الأنظمة، ثمّ بعد أربع سنوات من ذلك، وقّعت الاتفاق النووي مع إيران الذي ترى أنه لم يأخذ بعين الاعتبار مخاوفها الأمنية. لكن العلاقة تراجعت بشكل دراماتيكي مع بداية رئاسة بايدن، بعد أن قرّرت الإدارة اعتماد نهج مختلف في ما يتعلّق بحرب اليمن، تَمثّل في إزالة حركة «أنصار الله» عن قائمة الإرهاب، ثمّ ما اعتبره نظاما الرياض وأبو ظبي ردّاً أميركياً ضعيفاً على قصف الحركة العمقَين الإماراتي والسعودي، ولا سيّما لجهة رفض إعادة الحركة إلى اللائحة، على رغم أنّ أبو ظبي طلبت ذلك من الأميركيين مباشرة. لكن الضربة الأقسى لابن سلمان تمثّلت في نشر تقرير «السي آي إيه»، الذي حمّله شخصياً مسؤولية اغتيال الصحافي جمال خاشقجي. وفي المقابل، يعتقد الأميركيون بأنهم فعلوا أكثر من المطلوب منهم، بأن قاموا بتفعيل أنظمة الدفاع الجوي الموجودة في الخليج، ونشروا معدّات عسكرية إضافية، وأمدّوا السعودية بمزيد من صواريخ «الباتريوت».
بعض الديموقراطيين يطالبون بأن تتبنّى أميركا، رسمياً، عملية تغيير سياسي في السعودية


لا يشكّك أحد في أميركا في الحاجة إلى السعودية والإمارات وغيرهما، سواءً في ما يتعلّق بالنفط، أو بالاستثمارات الضخمة التي تضعها الصناديق السيادية الخليجية في الغرب، وتبلغ قيمتها تريليونات الدولارات، لكن ليس إلى درجة العودة إلى الصيغة التي تقوم بموجبها الولايات المتحدة بالدفاع عن الخليج من دون أن تفعل دوله شيئاً، باستثناء دفع الأموال، وهو مطلب يعتبره الأميركيون غير واقعي، على اعتبار أن أيّ تعاون أمني فعّال يتطلّب تغييرات بنيوية في تلك الدول. بحسب ما تنقله «فورين بوليسي» من أفكار قيد التداول، ثمّة ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة فوراً، مِن مِثل تزويد السعودية والإمارات بمعلومات استخبارية حول النشاطات التي يمكن أن تكون تحضيراً لهجمات مستقبلية من اليمن، مع إنذار مبكر حول موعد إطلاق الهجمات. يمكن القيام بهذا من خلال طائرتَين مسيّرتَين أو ثلاث من نوع «بريديتور» وأصول عسكرية أخرى توفّر معلومات استخباراتية مستمرّة وذات نوعية عالية. أيضاً، يمكن وضع خطط مشتركة في ما يتعلّق بإيران، لكن الأميركيين يجادلون بأن ما تَقدّم لم يحدث في الماضي لـ«أسباب مشروعة»، منها أن دول الخليج ليست لها مساهمة تُذكر في القدرات العسكرية الموظَّفة لهذه الغاية، والثاني أن تلك الدول كانت وما زالت منقسمة حول إيران، بدليل ما حصل بين عامَي 2017 و2021 عندما قاطعت السعودية والإمارات والبحرين ومصر قطر، متّهمة إياها، من بين أمور أخرى، بالانحياز إلى إيران. مع ذلك، ترى القيادة المركزية الأميركية أنه بعد حلّ الخلاف المذكور، صارت هناك فرصة لإشراك الشركاء العرب وإسرائيل في عملية التخطيط الاستراتيجي للاستفادة من أسلحة أكثر تقدُّماً.
لكن ثمّة عناصر بعيدة المدى يحتاج تنفيذها إلى وقت، مِن مِثل دمج الدفاع الجوي والصاروخي لدول الخليج، بحيث يصبح مسؤولية جماعية لها، وهو ما يتطلّب أوّلاً وقبل أيّ شيء، وجود ثقة بين الدول المشاركة لإيجاد نظام إنذار مبكر مشترك، كما يتطلّب التزاماً من الولايات المتحدة بمساعدة الشركاء الخليجيّين على القيام بإصلاحات دفاعية ضرورية لتطوير قدرات عسكرية فعالة. ويعني ذلك الاستثمار في بناء قدرات مؤسّسية للجيوش الخليجية، وليس الاكتفاء بمشتريات الأسلحة والحلول التكتيكية للمشكلات العميقة والقديمة في هذه الجيوش. هذا في النقاش التقني، لكن إلى جانبه، ثمّة نقاش سياسي يتناول الأسلوب الذي يتعيّن على الإدارة اتّباعه إزاء دول الخليج. فعلى سبيل المثال، قالت وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون، إنها كانت لتتعامل بأسلوب «العصا والجزرة» لإقناع ابن سلمان بالابتعاد عن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والاستجابة لمطلب واشنطن زيادة إنتاج النفط، ما يمكّن الأخيرة من تجاوز الأزمة النفطية الحالية، وهي دعوة صريحة إلى فرض عقوبات على السعودية إذا لم يستجب وليّ عهدها للمطلب الأميركي.
كما أن صحيفة «وول ستريت جورنال»، التي تولّت بشكل كبير تغطية الخلاف الأميركي - الخليجي خلال الأسابيع الماضية، نشرت مقالة رأي اعتبر كاتبها أن السعودية هي الشريك الأصغر في العلاقة، ويتعيّن على ابن سلمان رفع السمّاعة حين يتّصل به بايدن، وهو معاكس لمقال رأي آخر نشرته الصحيفة ذاتها قبل أيام، ويقترح كاتبه أن يطلب الرئيس الأميركي «المسامحة» من العائلة المالكة السعودية، وأن يحاكي الأسلوب الصيني في إظهار «الاحترام الكبير» لوليّ العهد. لكن المقالَين اعتبرا أن التوجُّه الأكثر واقعية هو التوصُّل إلى آلية دفاع استراتيجي ذات مصداقية مع دول الخليج، ووضع أهداف واضحة قابلة للتحقُّق للاتفاقات الدفاعية الثنائية والمتعدّدة الأطراف. وفي السياق نفسه، دعا «مركز ويلسون للدراسات»، بايدن، إلى أن «يفكّر مليّاً قبل التخلّي عن السياسة التي تنبذ ابن سلمان، وأن يفكّر في الضرر الذي قد يلحقه هذا الديكتاتور بسياسة تعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم»، لكن «الديموقراطية وحقوق الإنسان» في القاموس الأميركي، هي الاسم الحركي للمصالح، كما يُظهر التعامي الأميركي المستمرّ عن ما ارتكبته السعودية، خلال السنوات الثمانين الماضية.