على مدار نحو شهرَين، لم تهدأ الاحتجاجات ضدّ «قسد» في الأرياف الخاضعة لسيطرتها في دير الزور، والتي كان سببها الرئيس تدهور الأوضاع المعيشية وعدم توافر الخبز والمحروقات، قبل أن تتصاعد المطالب إلى مستوى إداري - سياسي، بدعوة المحتجّين إلى إقالة من سمّوهم «كوادر قنديل»، المتحكّمين بأمور مناطقهم مدنياً وعسكرياً، ومنح أبناء العشائر العربية صلاحيات حقيقية في مجالس «قسد» و«الإدارة الذاتية». وبدأت التحرّكات في الريف الغربي، ثمّ امتدّت إلى الريفَين الشمالي والشرقي، مع انتقالها إلى مرحلة قطع الطرقات بالإطارات المشتعلة، ومنع مرور دوريات «قسد» وصهاريج النفط التابعة لها، من ريف دير الزور باتّجاه الحسكة ومنبج والرقة ومناطق أخرى. واشتعلت هذه الموجة من التظاهرات على خلفية بدء «التحالف الدولي» و«قسد»، إعادة تأهيل عدد من الآبار المحيطة بحقلَي «كونيكو» و«العمر»، وإدخالها الخدمة، في ظلّ أزمة محروقات تعيشها أرياف دير الزور، وعدم توافر المازوت لتشغيل مولّدات الكهرباء لسقاية المزروعات، ما يهدّد بتلف مواسم القمح والشعير والخُضر. يضاف إلى ذلك، تدهور الأوضاع الأمنية، واستمرار عمليات الاعتقال العشوائية، ووجود مئات المعتقلين في سجون «قسد»، فضلاً عن استمرار ارتفاع نسبة البطالة في صفوف أبناء المنطقة، نتيجة الجفاف - الناجم عن انخفاض منسوب نهر الفرات - وعدم الاستفادة من المواسم الزراعية، وانتشار الأمراض جرّاء عمليات الاستخراج والتكرير البدائية للنفط، ليكون كلّ ما تَقدّم عوامل أسهمت جميعها في تأجيج التظاهرات.ولم يتردّد مُعلّمو «الإدارة الذاتية» في غالبية المجمّعات التربوية في ريف دير الزور، في الالتحاق بالمحتجّين؛ إذ أعلنوا عن إضراب عام حتى إشعار آخر، للمطالبة بزيادة رواتبهم، وتفعيل «نقابة المعلمين»، وتعيين حرّاس في المدارس لمنع الاعتداء عليها وسرقتها. ومع اتّساع دائرة المشاركين في الاحتجاجات، سرعان ما بدأت تتّخذ طابعاً سياسياً، من خلال رفع المتظاهرين شعارات تطالب بإقالة كوادر وقيادات كردية، كانت عيّنتهم «قسد» بصفة مستشارين في المجلسَين المدني والعسكري. ويطالب المحتجّون بمنح أبناء العشائر المحلّية صلاحيات كاملة في الإدارة، وإلغاء صفة المستشارين (الأكراد)، وإنهاء تحكّمهم بكلّ مفاصل الحياة في أرياف دير الزور. وزاد من حدّة التوتّر، إصدار «الإدارة الذاتية» الكردية قراراً بإقالة رئيس «مجلس دير الزور المدني»، غسّان اليوسف، وتعيين القيادي في حزب «المستقبل»، محمد الرجب، بدلاً منه، فيما يسود اعتقاد في أوساط المتظاهرين بأن وقوف اليوسف مع مطالبهم، هو السبب الرئيس خلف إقالته وتجميده.
لا يزال عناصر «داعش» ينشطون في المنطقة على رغم سيطرة «قسد» عليها منذ أعوام


إزاء ذلك، حاولت «قسد» استغلال هجوم مجهولين على آلية تابعة لها، أثناء مرورها إلى جانب إحدى التظاهرات في بلدة درنج في ريف دير الزور الشرقي، لقمع الاحتجاجات وإيقافها، عبر فرض حظر شامل للتجوال في بلدتَي درنج وسويدان جزيرة، مع حصارهما لمدّة أسبوع. وطلبت «قسد» تسليم الأشخاص المسؤولين عن إحراق السيارة، أو دفع قيمتها البالغة 35 ألف دولار كتعويض، مقابل رفع الحصار عن البلدتَين. إلّا أن هذه الخطوة آتت نتائج عكسية، إذ أدّت إلى ازدياد وتيرة التحرّكات، بعدما خرج أهالي قرى وبلدات عدّة للتضامن مع البلدتَين المحاصرتَين، وأصدروا بيانات طالبت بـ«وقف انتهاكات قسد بحق المدنيين، والكفّ عن الاستفزازات والممارسات غير الديموقراطية، والتي لا تتوافق مع الشعارات المرفوعة في المنطقة». وبفعل تلك الضغوط الشعبية، اضطرّت «قسد» لرفع الحصار عن درنج وسويدان جزيرة، ليل الخميس - الجمعة الفائتَين.
من جهتها، تؤكّد مصادر عشائرية محلّية، لـ«الأخبار»، أن «قسد لا تستجيب لمطالب المدنيين في دير الزور، وهي تواصل سياسة فرض شخصيات غير مقبولة لدى سكّان المنطقة، للتحكّم بمختلف مناحي الحياة فيها»، لافتة إلى أن «الأهالي يشعرون بمظلمة كبيرة، نتيجة استمرار الاعتقالات العشوائية، وعمليات الإنزال المبنيّة على معلومات أمنية غير دقيقة، ما أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين». وتشير المصادر إلى أن «قسد لم تستطع حتى الآن ضبط الأمن في ريف دير الزور، على رغم مرور عامَين إلى ثلاثة أعوام على سيطرتها على المنطقة، التي لا يزال الكثير من السكان فيها يدفعون الإتاوات لعناصر داعش الذين ينشطون بقوة فيها ومن دون أيّ رادع». كما تَلفت إلى أن «بعض قيادات قسد تعتبر معظم سكّان ريف الدير خلايا أو مناصرين لداعش، وهو أمر غير دقيق، خاصة أن التنظيم يرتكب عمليات تصفية واغتيال شبه يومية بحق الأهالي، ما يؤكد عدم صحّة هذا الاعتقاد». وتتوقّع المصادر العشائرية أن «يستمرّ التوتر ويتصاعد في المنطقة»، بسبب ما وصفته بـ«أسلوب الحكم غير العادل لقسد، وانتشار الجوع والفقر والمظلمة بين السكان، وهو ما يشكّل بيئة صالحة لتنظيم داعش لاستعادة نشاطه مجدّداً في المنطقة». وأمام كلّ هذه التطوّرات، غاب «التحالف الدولي» والقوات الأميركية بشكل شبه كامل عن المشهد، على رغم استمرار تحرّكاتهما العسكرية، والتي تَمثّلت في تنفيذ أربعة تدريبات بالذخيرة الحيّة، مع إطلاق بوالين حرارية تحمل كاميرات مراقبة لأوّل مرة في ريف دير الزور، بالإضافة إلى إدخال سبع قوافل أسلحة ومعدّات وذخائر خلال شهر آذار فقط، ما يشي بسعي «التحالف» لتثبيت وجوده غير الشرعي هناك، والتركيز على منع عودة الحكومة السورية إلى المنطقة، بدعوى الحرص على محاربة «داعش».