جنين | شهدت جنين، ليلة الأوّل من رمضان، عملية إسرائيلية خاصّة تخلّلها اشتباك مسلّح بين مقاومين وقوّة من نخبة العدو، أدّت إلى استشهاد ثلاثة شبان من «سرايا القدس»، وإصابة أربعة من عناصر وحدة النخبة، «يمام»، بعد ساعات من انتهاء عرضٍ عسكري كبير للمقاومة في مخيم جنين، وفي ظلّ تكرار عمليات إطلاق النار في اتجاه أهدافٍ إسرائيلية في شمال الضفة. واستهدفت العملية العسكرية الإسرائيلية مركبة فلسطينية من نوع «مازدا» قرب مفرق بلدة عرابة جنوب جنين، حيث سُمع صوت إطلاق نار كثيف، أعقبه الإعلان عن استشهاد كلٍ من: سيف حفظي أبو لبدة من مخيم نور شمس في طولكرم، صائب تيسير عباهرة من بلدة اليامون غرب جنين ويسكن المدينة، وخليل محمد طوالبة من مخيم جنين.توضح الرواية الإسرائيلية أن الشهداء الثلاثة كانوا بمثابة «قنبلة موقوتة»، وأن قوة «يمام» استهدفتهم برفقة «الشاباك» وجيش العدو، لتحييد خطرهم الفوري قبيل توجّههم لتنفيذ عملية، فيما تشير تقديرات العدو إلى أن وجهتهم كانت إلى داخل الأراضي المحتلة عام 1948 على طريقة الشهيد ضياء حمارشة، ذلك أن سيناريو تنفيذ عملية في الضفة الغربية في ليلة استشهادهم، مستبعد وغير مرجّح نظراً إلى إجازة المستوطنين الأسبوعية، السبت، وعدم وجود أهداف في الشوارع. من جهته، اعترف جيش العدو بإصابة أربعة من جنود وحدة «يمام» المختصّة بالاغتيالات خلال الاشتباك مع المقاومين، بينما كشفت وسائل إعلام عبرية أن أحدهم ضابطٌ وقائد سرية في قوة النخبة ومن قدامى العناصر العاملين فيها، وحاز أوسمة وجوائز لمشاركته في عدد كبير من عمليات اعتقال واغتيال المقاومين، كما أنه شارك أخيراً في اغتيال أشرف نعالوة وصالح البرغوثي واعتقال الأسير عاصم البرغوثي وعدد من الأسرى المحرَّرين عبر «نفق جلبوع».
ويقول مصدر مقرّب من المقاومة، لـ»الأخبار»، إن الشهداء الثلاثة من مقاومي «سرايا القدس»، وشاركوا قبل استشهادهم بساعات في عرض عسكري كبير داخل مخيم جنين لمناسبة الذكرى الـ20 لمعركة المخيم خلال انتفاضة الأقصى، كما أن سيف أبو لبدة حضر من مخيم نور شمس للمشاركة في العرض، وصوّر وصيّته والتقط صوراً له داخل المخيم، وهناك صور أخرى تجمعه مع الشهيد صائب عباهرة أيضاً. وتروي مصادر متطابقة، لـ»الأخبار»، واقعة المعركة، بالقول: «قبل ساعات من العرض العسكري، وصل سيف أبو لبدة من طولكرم برفقة صائب عباهرة وبدأ التجهيز للعرض، ثم خرج الشهداء الثلاثة من المخيم بعد انتهاء العرض العسكري بساعات، وبعدما تناولوا طعام العشاء، واكتشفوا ملاحقة القوة الخاصّة لهم، إذ إن أسلوب المركبات المدنية التي يستقلّها جنود إسرائيليون بات محروقاً وقديماً ويعرفه الرضيع في جنين، ثم شرعوا بإطلاق النار تجاه قوة يمام ووقع الاشتباك المسلّح لمدة لا تزيد على دقيقتين».
أصبح واضحاً وجود تصاعد في منسوب ظهور «سرايا القدس» ومسلّحيها في شمال الضفة


وتُعدّ الرواية المحلية هذه هي الأصوب، نظراً إلى عدد المصابين الكبير نسبياً في صفوف قوّة النخبة الإسرائيلية؛ فالقوة التي تدخل بخفّة وتنسحب بخفّة سقط منها أربعة جنود جرحى، بينهم قائد القوة المهاجِمة. فلو لم يكتشف المقاومون القوة ولم يبادروا إلى إطلاق النار، لأجهزت عليهم في وقت قصير، كما حدث حين اغتيل الشهداء الثلاثة في نابلس أخيراً، كما أن آثار دماء الشهداء ظهرت في مكان غير ملاصق للمركبة تماماً، ما يعني أن المقاومين ترجّلوا من مركبتهم وخاضوا الاشتباك المسلّح. وبعد استشهادهم، حضرت تعزيزات عسكرية إسرائيلية ضخمة إلى مكان الاشتباك عند مفرق عرابة، بينها طبيب ومركبة إسعاف، فيما احتجز جيش العدو جثامين الشهداء الثلاثة ومركبتهم وانسحب من المكان. وفي ساعات الصباح الأولى، عاد مجدّداً بعملية خاطفة واعتقل الشاب محمد الشبراوي، وهو صديق الشهيد سيف أبو لبدة وابن مخيم نور شمس الذي وصل من طولكرم إلى جنين لتفقّد مكان استشهاد صديقه. وبعد ساعات من اغتيال الشبان ليلاً، أعلن جيش العدو، ظهر أمس، عن اعتقال آخر عناصر خلية المقاومة، وهو الأسير المحرَّر يوسف مهنا، الذي اعتقلته قوّة خاصة من منزله في ضاحية شويكة شمال طولكرم، وصادرت قطعة سلاح من نوع «أم 16» بحوزته.
وقالت «القناة 12» الإسرائيلية، قبل أيام، إن حركة «حماس» تُعدّ عنصراً مركزياً في محاولات تنفيذ عمليات في الضفة، لكن المشكلة الكبيرة الحالية هي حركة «الجهاد الإسلامي»، التي حوّلت مبالغ كبيرة لتشكيل خلايا عسكرية وتنفيذ عمليات في الضفة الغربية. في المقابل، يُلاحَظ أن ثمّة سباقاً محموماً من جانب «الجهاد» لتعزيز قوّتها، كما أن أمينها العام، زياد النخالة، ظهر في أكثر من مناسبة للحديث عن «كتيبة جنين» و»سرايا القدس» فيها، وهي مؤشرات تشي بالدعم السياسي - على الأقل - والترابط بين هرم القيادة وما يجري على الأرض في جنين.

سِيَر الشهداء
سيف أبو لبدة هو أسير محرَّر كان ينتمي إلى حركة «فتح» حتى آخر اعتقال له في تموز 2021. والتقى أبو لبدة بالشهيد عبدالله الحصري (من مخيّم جنين واستشهد قبل شهر) في الأسْر، وأصبحا صديقَين مقرّبَين، ثم تحوّل إلى قيادة خلّية في «سرايا القدس». تحوُّل يقول مصدر، لـ»الأخبار»، إنه ليس مستغرباً، نظراً إلى أن الشهيد يحمل فكر المقاومة المسلّحة، وتربطه علاقات واسعة بأبناء حركة «الجهاد» وغيرهم، حتى عندما كان منخرطاً في صفوف «فتح». وبات أبو لبدة، أخيراً، مطلوباً للعدو علماً أن الرواية الرسمية لـ»الشاباك» تتّهمه بتنفيذ عملية إطلاق نار في طولكرم. وفي هذا الإطار، يكشف مصدر، لـ»الأخبار»، أنه مسؤول بالفعل عن تنفيذ سلسلة عمليات إطلاق نار في طولكرم، أبرزها: إطلاق نار وقع بداية شهر آذار الماضي واستهدف بوابة حاجز «نتساني عوز» غرب المدينة، واشتباك مسلّح مع آليات جيش العدو وسط المدينة قبل أسابيع، وإطلاق نار تجاه جنود يتواجدون عند بوابة الجدار في ضاحية شويكة شمال المدينة، قبل يوم من اغتياله. وفي وصيته، يقول أبو لبدة: «أقدّم روحي رخيصة في سبيل الله وفي سبيل تحرير فلسطين المسلمة من دنس اليهود المعتدين، فأنا مجاهد أطلّ عليكم من سليل الشهداء المعلم الشهيد فتحي الشقاقي، والشهداء أشرف بردويل ونعمان بردويل وفلاح مشارقة وخالد أبو صقر وإياد شلباية وسند غنام وأحمد عليان والكرمي والجبارين». ويبدو في وصيته هذه شديد التأثّر بشهداء المقاومة في مخيّمه نور شمس من مختلف الفصائل، إضافة إلى الشهيد رائد الكرمي، ما يشي بأنه يعتنق فكر الوحدة الوطنية والمقاومة المسلحة ضد العدو.
وتعود جذور صائب تيسير عباهرة، إلى بلدة اليامون غرب جنين، لكنه يسكن المدينة ويمتلك محلاً لقطع السيارات، ولا يُعرف أين التقى مع أبو لبدة أو كيف تعرّف إليه، علماً أنه يتردّد على طولكرم بحكم عمله في المركبات وتصليحها. وترتبط عائلة الشهيد الذي لم يسبق أن اعتقل في السجون الإسرائيلية، بعلاقة متينة بجيرانهم من عائلة السعدي (الشهيد صائب وأشقاؤه أصدقاء وجيران يزيد السعدي الذي استشهد قبل أيّام في جنين). أما خليل طوالبة، فليس أسيراً محرَّراً، وحاصل على شهادة البكالوريوس من الجامعة العربية الأميركية في جنين.
وأعقب استشهاد المقاومين الثلاثة مسيرات غاضبة في جنين ومخيّم نور شمس، حيث بدت لافتة مشاركة مجموعة مسلحين من «سرايا القدس» و»كتائب شهداء الأقصى». ويبدو أن الأحداث ستكرّر نفسها، إذ إن شرارة الاشتباك في مخيم جنين بدأت بمجموعة متواضعة يقودها الشهيد جميل العموري ليتوالد المقاتلون تباعاً. ولا يبدو أن ثمة هدوءاً في مقبل الأيّام في الضفة الغربية، فالفلسطينيون المطلوبون يزداد عددهم أسبوعياً، وعدد كبير منهم يحملون البنادق ويستعدّون للمواجهة، كما أن «الجبهات الجغرافية» باتت مترابطة، فأيّ تصعيد كبير في غزة سيولّد انفجارات في القدس والضفة وربّما النقب، والعكس صحيح. ويمكن القول إن الخلية الأخيرة التي اغتيلت على مفرق عرابة هي الأخطر، منذ سنوات، في الضفة، نظراً إلى التباعد الجغرافي بين المقاومين وطريقة تنظيمهم وتوجّه بعضهم من طولكرم إلى جنين للمشاركة في مَسيرٍ للمقاومة وأنشطة عسكرية، إضافة إلى طريقة الاغتيال وخسائر قوة نخبة العدو. وأصبح واضحاً وجود تصاعد في منسوب ظهور «سرايا القدس» ومسلّحيها في شمال الضفة. وفي حالة الخلية الأخيرة، مثلاً، انتقلت «ظاهرة الاشتباك» من مخيم جنين إلى نور شمس، حيث نفّذ أبو لبدة عمليات إطلاق نار كما خرج بنفسه في عرض عسكري لـ»السرايا» في مخيمه في طولكرم للمرّة الأوّلى منذ انتهاء انتفاضة الأقصى.