أحدثت الهدنة الإنسانية التي أعلنتها الأمم المتحدة في اليمن خرقاً في جدار المراوحة بعدما تيقّن التحالف السعودي ــــ الإماراتي مِن واقع أن حسْم المعركة في الميدان لن يكون حليفه، وأن داعميه الخارجيين مشغولون، راهناً، بما سينجلي عن الحرب الأوكرانية من تحوّلات، فيما تتلقّى الرياض وأبو ظبي ضربةً تلوَ أخرى من دون أن يرفّ لواشنطن جفن. على هذا، تأمل صنعاء أن يكون الاتفاق المعلَن مقدّمة لوضع حدّ للحرب، وإن كانت تدرك أن دول العدوان ستحتفظ لنفسها بأوراق مهمّة، علّها، من خلالها، تتمكّن من انتزاع بعض المكاسب في جولات التفاوض المقبلة.
تُعدّ الهدنة الإنسانية المعلَنة لمدّة شهرين بين أطراف النزاع في اليمن، الحدّ الأقصى الممكن إنجازه، كونها الأقرب إلى انعكاس التوازنات الحالية، بعدما فشل أيّ من الأطراف المتحاربين من حسم المعركة ميدانياً. ومن بين العوامل التي دفعت إلى تفعيل التهدئة، انشغال الدول الغربية الداعمة للعدوان بالأزمة الأوكرانية، ودخول عاصمتَي التحالف السعودي - الإماراتي ومنشآتهما الحيوية في دائرة الاستهداف اليمني. وفي حين اعتُبرت هدنة الشهرين من ضمن إجراءات بناء الثقة، وتمهيداً لاتفاق شامل ونهائي بين أطراف النزاع، لا يزال مستبعداً أن تكون وحدها مقدّمةً لإنهاء الحرب، ولا سيما أن دول العدوان، ومن خلفها واشنطن، ستحاول إبقاء العديد من الأوراق في يدها، وعلى رأسها الورقة الاقتصادية، وهو ما قد يستدعي جولات أخرى من الصراع.
وإذ لا يُعتبر وقْف الأعمال العسكرية بذاته إنجازاً للمفاوض اليمني، إلّا أن الاتفاق يمثّل اعترافاً بتطوّر القدرات العسكرية والسياسية لحركة «أنصار الله»، فضلاً عن أنه يكشف اتّساع رقعة الاعتراف بها محلياً وإقليمياً ودولياً، كقوّة رئيسة تسيطر على مساحات واسعة يعيش فيها أكثر من ثلثَي اليمنيين. وهي وقائع مكّنت الحركة، للمرّة الأولى، من انتزاع موافقة دولية وإقليمية تسمح لها بفتح موقّت لمطار صنعاء الدولي لتسيير رحلات إلى كل من الأردن ومصر، فضلاً عن السماح لـ18 سفينة وقود بإفراغ حمولتها في ميناء الحديدة خلال شهرَي الهدنة. وعلى رغم أن الاتفاق المذكور لا ينسجم مع كامل طموحات صنعاء، إذ لا يزال هناك العديد من القضايا الإنسانية العالقة، مِن مِثل رواتب الموظفين، واحتمال إحجام «الشرعية» عن إتمام عملية تبادل الأسرى، والالتزام بنصّ الاتفاق، لكن من شأن هدنة الشهرين أن تُحدِث انفراجة معنوية ومعيشية في البلد، وهو ما عبّر عنه عضو وفد صنعاء المفاوض، عبد الملك العجري، بقوله إن «إعلان الأمم المتحدة عن هدنة إنسانية، وإن كانت إجراءً موقّتاً لم يتضمّن رفعاً شاملاً للحصار كما نريد، إلّا أن الهدف منها: أولاً، تخفيف المعاناة الإنسانية بمناسبة شهر رمضان. وثانياً، التهيئة لإجراء مشاورات لرفع الحصار وإنهاء الحرب بشكل شامل ودائم».
يأتي الاتفاق في لحظة فارقة بالنسبة إلى علاقات كل من السعودية والإمارات مع الولايات المتحدة


كذلك، يمكن اعتبار اتفاق الهدنة مَخرجاً للقوى الغربية، خصوصاً لندن وواشنطن المنخرطتَين مباشرة في دعم تحالف العدوان، في ظلّ اضطرارهما لتجميد الملفّ اليمني، ووضع البلد في حالة اللاسلم واللاحرب، بهدف الانصراف إلى متابعة الأزمة الأوكرانية إلى حين جلاء الغبار عن نتائج المعركة مع روسيا. مع هذا، حضرت واشنطن بقوّة في المفاوضات عبر مبعوثها إلى اليمن، تيموثي ليندركينغ، الذي قال، في مقابلة تلفزيونية، إنه كان جزءاً من النشاط الذي بُذِل لإنجاح الاتفاق الذي يمثّل، بحسبه، «لحظة حاسمة في الصراع... ويُعدّ خطوة أولى في اتجاه وقف دائم لإطلاق النار». وفي السياق ذاته، بدا لافتاً بيان الترحيب بالاتفاق الصادر على لسان الرئيس الأميركي، جو بايدن، وذكْره لتفاصيله، وشكره لكلٍّ من الرياض ومسقط.
ويرى مطّلعون على المفاوضات أنه لم يكن في الإمكان إنجاز أكثر ممّا أُنجز، وأن التنازلات الحالية وتلك التي يمكن أن تضاف إليها في المستقبل، ستكون سمتها الغالبة المواربة، فيما سيسعى القائمون على أيّ اتفاق لاحق، إلى عدم تحميل السعودية التبعات المباشرة للحرب. وستحاول دول العدوان، من جهتها، التخفيف من وطأة الإنجاز السياسي، عبر الاكتفاء بالإنجازات المدرجة في الاتفاق، كما سيعمل «التحالف» على أن لا تشكّل الاتفاقات مع «أنصار الله» دفعاً سياسياً إضافياً يظهر هذه الأخيرة بمظهر المنتصر الذي أملى شروطه على الطرف الآخر.
ويأتي الاتفاق في لحظة فارقة بالنسبة إلى علاقات كل من السعودية والإمارات مع الولايات المتحدة، اللتين يدور تجاذب دولي، وآخر داخلي أميركي، حول سياسات نظاميهما، والجدل القائم حول استمرار الحماية الأميركية لهما، والكلفة المترتّبة على هذه الحماية. ويبدو واضحاً أن دول الخليج، وخصوصاً الرياض وأبو ظبي، تتعرّضان لعملية ابتزاز أميركي غير معهودة، إذ يتهم البلدان، الولايات المتحدة، بالتخلّي عن حمايتهما في مواجهة الهجمات التي يتعرّضان لها على أيدي «أنصار الله»، والتي أجبرت، بحسب تقارير غربية، نظامَي الرياض وأبو ظبي على التنازل والموافقة السريعة لإنجاز اتفاق الهدنة. اتفاقٌ سيلقي بظلاله على المشهدَين اليمني والإقليمي، لكون نتائجه تُعدّ بمثابة خرق ثانٍ في الجدار السميك للأفق السياسي، الذي بقي مسدوداً وعصياً على الاختراق طوال عمر الحرب على اليمن (نجحت أطراف النزاع، بواسطة الأمم المتحدة، في إحداث الخرق الأوّل من خلال «اتفاق استوكهولم» بداية عام 2018).
من جانبها، تشعر صنعاء (وإن كانت تتعامل بحذر شديد مع الاتفاق خشية أن يتمّ استغلاله لغير أهدافه) بالارتياح لجهة الإقرار بالمعادلة التي فرضها الصمود الأسطوري للشعب اليمني، في مقابل تآكل منظومة العدوان على المستويات كافة. وهو ما يُتوقع أن يترجَم تراجعاً إضافياً لـ»التحالف» في الجولات التفاوضية المقبلة، وإن بخطى بطيئة. وتصرّ صنعاء على المسار السياسي التفاوضي، بعدما رسمت خطّة استراتيجية للتفاوض عبّر عنها زعيم حركة «أنصار الله»، عبد الملك الحوثي، في أكثر من مناسبة. وترى أنها معنية - أكثر من غيرها - بالمرونة السياسية لرفع المعاناة عن اليمنيين ومعالجة القضايا الإنسانية الناتجة عن الحرب، وهي لهذه الغاية قدّمت وستقدّم التنازلات، مع الحرص على أن وفدها المفاوض لن يعطي بالسياسة ما عجز العدوان عن انتزاعه بالوسائل العسكرية.