تونس | بعد نحو 3 أشهر على إطلاق الرئيس التونسي، قيس سعيد، الاستشارة الوطنية حول الإصلاحات السياسية في البلاد، أعلن سعيد، أوّل من أمس، نتائج الاستشارة، التي جاءت، على تواضع المشاركين فيها، متطابقة مع مشروعه السياسي. وبدا، إثر ذلك، أن سعيد انطلق فعلياً في مسار الحوار، والذي سيكون انتقائياً وفق ما يؤكد مقرّبون منه لـ«الأخبار»؛ إذ سيقتصر على المنظّمات الوطنية، وفي مقدّمتها «الاتحاد العام التونسي للشغل» و«الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» و«هيئة المحامين» و«منظّمة رجال الأعمال». أمّا بالنسبة إلى الأحزاب السياسية، فسيكون حضورها ضعيفاً، ومقتصراً على مَن لم تُطاولْهم ملاحقات جزائية بتهم التآمر على أمن الدولة أو أخرى مرتبطة بالمال السياسي الفاسد خلال الانتخابات التشريعية الماضية. واستقبل سعيد، أمس، لأوّل مرة منذ 3 أشهر، المكتب التنفيذي لـ«اتحاد الشغل»، للتباحث في كيفية تنزيل نتائج الاستشارة في شكل حوار وطني يصيغ الإصلاحات السياسية، وفق المصادر نفسها. ولم تشهد الاستشارة مشاركة مكثّفة من قِبَل التونسيين، إذ لم يتجاوز عدد المشاركين فيها نصف مليون شخص، ولكن ذلك لم يُفقد سعيد شغفه بمشروعه، خصوصاً أن 86.4% من هؤلاء فضّلوا عودة النظام الرئاسي، فيما أيّد الباقون الإبقاء على النظام البرلماني، أو اعتماد نظام مختلط يمنح السلطتَين التشريعية والتنفيذية صلاحيات متوازنة ومتكافئة. كذلك، آثر 70% من المشاركين تغيير النظام الانتخابي نحو نظام الاقتراع على الأشخاص بدل الاقتراع على القائمات المستقلّة أو الحزبية، فيما أيّد 92% سحب الوكالة من النواب المنتخَبين. وعلى المستويَين الاقتصادي والاجتماعي، برز إجماع على وجوب الابتعاد عن الاستدانة من الخارج والتنمية الداخلية والتعويل على الموارد الذاتية، بالإضافة إلى تعهّد الدولة بالشأن الديني بما يحفظ الحرّيات العامة والفردية.
لم تشهد الاستشارة مشاركة مكثّفة من التونسيين وبلغ عدد المشاركين 500 ألف شخص فقط


وعلى رغم أن نسبة المشاركة الضئيلة في الاستشارة، تُصعّب مسألة القياس على نتائجها، إلّا أنها تنبئ، بشكل أو بآخر، بوجود تململ من النظام البرلماني، الذي أدى إلى نشوء «ديموقراطية صورية» تسيطر بموجبها الأغلبية النيابية على دوائر الحُكم، فيما رئيس الجمهورية لا يحظى إلّا باختصاصات محدودة. وممّا ضاعف ذلك التململ هو أن الكتلة التي حكمت فعلياً البلاد منذ عام 2011، ماطلت في إرساء مؤسسات دستورية على غرار المحكمة الدستورية التي كانت لتغني البلاد عن أيّ تعسّف في التأويل، وسنّت قوانين لخدمة لوبيات بعينها. وفي الاتّجاه نفسه، تنبئ النتائج بأن جزءاً من التونسيين، على الأقلّ، يعتقدون أن النظام السياسي الحالي لا يسمح بمساءلة أيّ طرف ولا محاسبته على تدهور الأوضاع. أمّا بخصوص طريقة الانتخاب، ورفض الاستمرار في نظام القائمات، فمردّه إلى أن هذا النظام يسمح للحزب بالترشّح في دائرة نيابية بقائمة من عشرة أشخاص تُقسم المقاعد بين أعضائها وفق عدد الأصوات، وهو ما أدى إلى صعود شخصيات لا تملك أيّ مؤهّلات، بل فقط لأن الصدفة شاءت وجودها أسفل ترتيب قائمة رئيسها لديه جماهيرية وتمكّن من جلب الأصوات. وعلى امتداد ثلاث دورات نيابية، كثيراً ما اكتشف المتابعون لأشغال البرلمان نواباً مجهولي الهوية بمحض الصدف، لقلّة مشاركاتهم أو ضعف إسهاماتهم، حتى إن البعض أطلق عليهم لقب «الكتلة الصامتة». وبالنسبة إلى مسألة سحب الوكالة، والتي ابتدعها سعيد، عانياً بها أن لا ينتظر الناخبون إلى حين الموعد الانتخابي الموالي ليحاسبوا النواب، وأن يتاح لهم، عبر عريضة ممضاة من أغلبيتهم، أن يسحبوا أصواتهم من نائب ما في منتصف المدة النيابية أو بدايتها أو نهايتها، فعلى رغم تأييد الغالبية لها، إلّا أن هذه التقنية تفتقد للمنطق السليم والروح القانونية، فلا معنى لأن تكون للناخبين صلاحية سحب وكالتهم وفق مزاجهم المتقلّب، مع ما يستجلبه ذلك من عدم استقرار.