بعد أيام على قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، وتقطيعه بالمنشار في القنصلية السعودية في إسطنبول، في الثاني من تشرين الأول 2018، بدأت تتسرّب تفاصيل مثيرة، بواسطة المخابرات التركية، إلى صحف تركيا والعالم عن تلك الجريمة المريعة. تسريبات أوحت بأن «السلطان» سعى للإطاحة بمحمد بن سلمان، وكاد يُفلح في مسعاه هذا، لولا أن تدخّل الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، لإنقاذ «مؤخّرة» وليّ العهد السعودي. لم يكن إردوغان يريد تحسين شروط الحُكم في السعودية لمصلحة الشعب السعودي حتماً، بل فعل ذلك بصفته زعيماً روحياً لـ«الإخوان المسلمين» في العالم، في محاولة لإنقاذ مشروع تحكيمهم بالبلدان العربية الذي جاء مع «الربيع العربي»، وكان مستمرّاً في التهاوي آنذاك. ساعده في مهمّته هذه، كوْن الضحية نفسه «إخوانيَّ» الميول، بما أضفى على الأوّل نوعاً من «الأبوّة» لقضية الاغتيال وللمشروع معاً. لكن بالأمس، قام إردوغان بتسليم ملفّ الجريمة إلى القاتل، حتى يكون هو القاضي، مع الإعلان عن أن الادّعاء التركي طلب من المحكمة التي تَنظر في قضية مقتل خاشقجي، تسليم ملفّ الجريمة مع المتّهمين الموجودين في تركيا إلى القضاء السعودي، الذي يسيطر عليه ابن سلمان سيطرة لا ينازعه عليها أحد، في ما وضعه وزير الخارجية التركي، مولود تشاوش أوغلو، في سياق «خطوات مهمّة تتّخذها أنقرة لتطبيع العلاقات مع السعودية».السؤال الآن، هل سيكتفي ابن سلمان بهذا القدر أم سيسعى للمزيد، خاصة أنه كان رفض قبل أسابيع نصف تنازل من الرئيس التركي، حين عرض إردوغان أوّلاً ملاقاته في منتصف الطريق، في الدوحة، أثناء الجولة الخليجية لوليّ العهد، ثم تلقّى صدّاً سعودياً صلفاً، عندما أعلن بعد ذلك أن السعوديين أبلغوه بتحديد موعد له في منتصف شباط الماضي في الرياض؟ يحبّ ابن سلمان التفنّن في الامتهان، وفق ما تشي به معاملته لمعارضيه، سواءً الذين يقبعون تحت رحمته في السجون أو الإقامة الجبرية، من أفراد الأسرة ورجال الأعمال والناشطين، أو كانوا رؤساء دول من الذين «تفرض» عليهم مصالحهم وضع كرامتهم على الرفّ، مِن مِثل إردوغان، الذي يحرص على تحسين فرصه في الفوز بالرئاسة مرّة جديدة في انتخابات 2023، وهي التي باتت مهدَّدة بفعل الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تركيا، وخاصة مع انهيار الليرة. ذلك أن الرئيس التركي لم ينجح في تصعيد الخطاب الإسلامي، وتقديم نفسه مقاتلاً من أجله على مستوى العالم، إلّا لأنه تمكّن في معظم فترات حُكمه المستمرّة منذ عام 2002، رئيساً للوزراء ثمّ رئيساً للجمهورية، من تحقيق استقرار اقتصادي لتركيا، وبالذات للعملة الوطنية. وهو لديه تصوّر معلن يرتكز على جذب استثمارات من الخليج لإنعاش اقتصاد بلاده، وقد نجح في عقد مصالحة مع وليّ عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، كما عمد إلى تحسين العلاقات مع إسرائيل ويهود تركيا.
قام إردوغان بتسليم ملفّ الجريمة إلى القاتل، حتى يكون هو القاضي


فضيحة إردوغان التي تجري فصولها في العلن، تُماثلها أخرى في السرّ تجري مع الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي صار يحاول استرضاء وليّ العهد السعودي، بعدما كان بدأ عهده بمقاطعته تماماً، بما أثار تكهّنات بأنه يريد الإطاحة به، فإذا بالأمر ينقلب، فيصبح ابن سلمان، إلى جانب حلفاء آخرين، عاملاً أساسياً في تحديد مصير الرئيس الأميركي، عندما يحين موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2024. إنه النفط، وبالذات التحالفات التي قامت على رفع أسعاره في «أوبك بلس» بين ابن سلمان وبعض دول الخليج من جهة، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين من جهة ثانية، لتأتي حرب أوكرانيا التي أثارها بايدن وترفع بصورة جنونية أسعار النفط وتعرقل سلاسل التوريد، فتهدّد الأمن الغذائي العالمي، وهو سيناريو مثالي لازدهار ولي العهد السعودي وغيره من أمراء النفط، حيث لم يعد أحد يجرؤ على مجرّد التلفّظ بانتقاد لسجلّه الأسود في القمع والتنكيل بالمعارضين. ولذا، فقد مرّ مرور الكرام، مثلاً، تقرير ردّده معارضون سعوديون عن أن وليّ العهد السابق، محمد بن نايف، تعرّض لانتكاسة صحية في سجنه، سببها الإهمال الطبي وتعمُّد تفويت مواعيد أخذ الدواء ومنع بعض الأدوية المهمّة عنه.
سيستغلّ ابن سلمان فرصته هذه في ترسيخ حُكمه، فيما لم يتأخّر احتفال مؤيّديه على وسائل التواصل الاجتماعي، بانتصار «الأمير» على «السلطان» الذي جاء إلى الأوّل «صاغراً» كما ردّدوا، وهو ما ستستخدمه السلطة إلى الحدّ الأقصى ضدّ المعارضين، وخصوصاً القريبين من «الإخوان المسلمين» الذين كانوا يطبّلون للرئيس التركي. ولعلّ من بين أكثر المتضرّرين، سيكون بعض رجال الدين السجناء الذين تتّهمهم السلطات السعودية بالتبعية لجماعة «الإخوان». وإذا كان ابن سلمان سيكتفي بهذا القدر، فربما سيَظهر إردوغان قريباً على باب قصر اليمامة في الرياض، وقد يحصل على قرار بوقف المقاطعة السعودية للمنتجات التركية، وعودة السياح السعوديين إلى شوارع إسطنبول، وضخّ بعض الاستثمارات في الاقتصاد التركي، ولكنه سيدفن بذلك قضية يعود إليه هو تحويلها إلى هذه الدراما العالمية باعتبارها «قضية حق»، ومعها كلّ شعاراته الكبرى التي ثبت أنها لا تعدو كونها مطيّة للبقاء في الحكم، يمكن استبدالها بشعارات أخرى، معاكسة تماماً، إذا دعت الضرورة. لكنّ هذه التقلّبات قد تأتي بنتائج مغايرة للمأمول، وحينها ستكون نهاية بائسة لإردوغان ولتجربته التي أثارت دهشة كثيرين.