جنين | في صفعة ثالثة خلال أسبوع، وضربة قاسية وغير متوقّعة، شهدت مستوطنة «بني براك» في قلب فلسطين المحتلّة، قتال شوارع حقيقياً، وعملية إطلاق نار أسفرت عن مقتل خمسة إسرائيليين، نفّذها فلسطيني قادم من جنين في الضفة، أعقبتها احتفالات فلسطينية واسعة، وسط إدانة السلطة الفلسطينية للعملية. وتشير التحقيقات الأوّلية الإسرائيلية إلى أن منفّذ الهجوم، الشهيد ضياء حمارشة، وصل إلى المكان بمركبة رمادية اللون من طراز «هوندا سيفك»، وترجّل منها، ثمّ بدأ عملية إطلاق النار باستخدام بندقية «M16» اشتراها بنفسه ولم يغتنمها، وليست مسروقة من مخازن جيش العدو (جرى تهريبها من الأردن أو مصر عبر تجار سلاح). وذكرت «القناة 13» العبرية، من جهتها، أن خلية شاركت في تنفيذ الهجوم، تضمّ مطلق النار المباشر وهو الشهيد حمارشة، وشاباً ثانياً أصيب بجروح وجرى اعتقاله، بينما تجري مطاردة شاب ثالث نجح في الانسحاب.وتُظهر مقاطع فيديو، الشهيد وهو يُجهّز بندقيته ويسير بثبات ورباطة جأش، فيما يبدو أنه ليس مجرّد هاوٍ، بل محترف ويصيب أهدافه بدقّة، إذ لوحظ أنه يطلق الرصاص بشكل غير أوتوماتيكي، بل فردي، أي «طلقة طلقة» (وهو ما أكدته قناة «كان» العبرية، بإفادتها بأن المنفّذ أطلق 12 رصاصة فقط وقتل بها 5 أشخاص). وفي مشهد بدا أقرب إلى الأفلام، صرخ المنفّذ على مستوطن يقود مركبة «جيب» بالعبرية: «قف قف»، وأطلق طلقة واحدة فقط عليه فأرداه قتيلاً، وعندما توقّفت المركبة عن الحركة، تقدَّم نحو المستوطن وأطلّ عليه من النافذة ليتأكّد من مقتله. بعد ذلك، توجّه نحو اثنين من المستوطنين يجلسان أمام محلّ تجاري، فأطلق عليهما النار من مسافة صفر وقتلهما، ثمّ انتقل إلى زاوية أخرى وعاد مجدّداً إليهما ليتأكّد من مقتلهما. أمّا القتيلان الرابع والخامس فأحدهما حاخام إسرائيلي، والآخر من عناصر شرطة العدو، حيث دار اشتباك مسلّح بين الشرطيّ الذي ترجّل من دراجة نارية وبين المنفّذ، فقتل أحدهما الآخر. وفي مقطع فيديو آخر، تقول مستوطِنة إن المنفّذ كان يستقلّ مركبة مع شخص آخر، ثمّ ترجّل وطلب منها ومن مستوطِنة أخرى مع أطفالها الابتعاد عن المكان والرجوع إلى الخلف، ثمّ بدأ بإطلاق النار على مستوطنين آخرين.
إذاً، تَحقّق ما كان يخشاه العدو، وهو خروج عملية كبيرة من قلب جنين نحو الأراضي المحتلة عام 1948؛ إذ كانت تشير تقديرات الاحتلال، وحتى تقديرات المراقبين الفلسطينيين، إلى أن ظاهرة الاشتباك في جنين ستظلّ «محدودة محلّياً»؛ لافتقار المسلّحين هناك إلى التنظيم والعمل المنسّق والاحترافية كما في الانتفاضة الثانية، لكنّ عملية «بني براك» جاءت لتشعل ضوء إنذار جديد أمام منظومة الأمن الإسرائيلية. وفي إزاء ذلك، تسلّح الإسرائيليون ووسائل إعلامهم بـ«شُبهة داعش» لمحاولة مواساة أنفسهم والتخفيف من حدّة العمليات الأخيرة، مستندين إلى كون المنفّذين الثلاثة في الخضيرة وبئر السبع لديهم ميول فكرية إسلامية أقرب إلى التنظيم سابقاً، أو اعتُقلوا خلال ذروة نشاطه في سوريا. والظاهر أن العدو يحاول بهذا الربط تخويف الفلسطينيين في الداخل المحتلّ، ومنعهم من التعاطف أو تأييد الهجمات التي ينفّذها فلسطينيو الـ48، لكن تلك السردية «تلخبطت» سريعاً مع هجوم «بني براك» بعدما ظهر أن منفّذه من الضفة الغربية وأسير محرَّر.
شهدت غالبية مناطق الضفة الغربية، عقب العملية، احتفالات ومسيرات راجلة ومحمولة


وتزامنت العملية الأخيرة مع ذكرى «يوم الأرض»، كما سبقت بأيام قليلة حلول شهر رمضان، وهو ما يحمل دلالات معنوية كبيرة بالنسبة إلى الفلسطينيين. كذلك، يعيد الهجوم مشاهد انتفاضة الأقصى إلى الأذهان، حيث كان الاستشهاديون ينفّذون عملياتهم داخل إسرائيل بالبنادق، لكن مع فارق أنه لم تكن كاميرات المراقبة ووسائل التواصل الاجتماعي منتشرة آنذاك كما اليوم. ولم يشهد الإسرائيليون مثل هذه الضربات في قلب الكيان منذ الانتفاضة الثانية، إذ وقعت ثلاث هجمات خلال 8 أيام، أسفرت عن مقتل 11 إسرائيلياً وإصابة 8 آخرين. وأثار ذلك موجة هلع إسرائيلية، دفعت محرِّر الشؤون الفلسطينية في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، أليؤور ليفي، إلى القول إنه «قبل 20 عاماً، كُنّا نخشى الصعود في الحافلات، واليوم أصبحنا نخاف المشي في الشوارع... هذه العملية الثالثة خلال أسبوع»، بينما اعتبر الصحافي في «القناة 13» العبرية، نداف أيال، أن ما يجري «فشل كبير للمنظومة الأمنية»، على اعتبار أن العمليات الثلاث الأخيرة نفّذها شبّان معروفون لدى جهاز «الشاباك» ولديهم سجل أمني سابق. وبينما هاجم مستوطنون وزير الأمن الداخلي، عومر بارليف، في مكان هجوم «بني براك»، أقرّ وزير جيش العدو الأسبق، شاؤول موفاز، بأن «المستوطنين اليوم يسترجعون مشاعر ما قبل 20 عاماً بأنه لا أمن في شوارع إسرائيل».
في المقابل، شهدت غالبية مناطق الضفة الغربية، عقب العملية، احتفالات ومسيرات راجلة ومحمولة، فيما وزّع عشرات الشبّان الحلوى على المارّة في الضفة وقطاع غزة، كما انطلقت مسيرات مماثلة في عدد من المخيمات الفلسطينية في لبنان والشتات. وفي جنين تحديداً، لم تقتصر تداعيات الهجوم على ذلك، بل تَجهّز عشرات الشبّان الفلسطينيين للمواجهات وصدّ الاقتحام المحتمل لجيش العدو، إذ أغلقوا شوارع بلدة يعبد (التي يتحدّر منها الشهيد حمارشة) بالإطارات المطاطية، لتندلع بعد ساعات مواجهات عنيفة مع اقتحام جيش الاحتلال منزل الشهيد، واعتقاله أحد أقاربه، وهو القيادي في حركة «حماس»، عدنان حمارشة، وأخذ قياسات هندسية لمنزل العائلة تمهيداً لهدمه، توازياً وإجراء الجنود تحقيقاً ميدانياً مع والد ضياء وعائلته. أيضاً، ارتفع عدد نقاط المواجهة مع جيش العدو والمستوطنين في الضفة، حيث سُجّلت 7 نقاط مواجهة في ساعة واحدة، أبرزها إطلاق مقاومين النار تجاه البؤرة الاستيطانية «أفيتار» في جبل صبيح في بلدة بيتا جنوب نابلس. وعلى إثر تلك التطوّرات، قرّر جيش الاحتلال تعزيز قوّاته العسكرية في الضفة بأربع كتائب إضافية، بعد يوم من استقدامه أربع كتائب أخرى، كما شنّ حملة اعتقالات عشوائية طاولت عمالاً فلسطينيين قرب مكان العملية. وبحسب مصادر «الأخبار»، فقد بدأ العدو تنفيذ حملة أمنية تستهدف سدّ ثغرات الجدار الفاصل بين الضفة والأراضي المحتلة عام 48، حيث عزّز من انتشار جنوده على مختلف هذه الثغرات، ونصب كمائن قرب عدّة محاور من الجدار في قرى فلسطينية مختلفة (أفيد مساء أمس بأن الشهيد كان اجتاز فتحة في الجدار بسيارة إسرائيلية مسروقة، وغيّر لوحة تسجيلها).


من جهتها، سارعت فصائل المقاومة الفلسطينية إلى مباركة عملية «بني براك»، واعتبارها رداً طبيعياً على الجرائم الإسرائيلية، بينما كشفت إذاعة جيش العدو أن مكتب وزير الجيش، بيني غانتس، بعث برسالة إلى مكتب رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، يتوقّع فيها منه أن يدين الهجوم، وهذا ما حدث فعلاً، إذ سارع عباس إلى استنكار العملية التي استهدفت مَن وصفهم بـ«المدنيين»، معتبراً أن «قتل المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين لا يؤدي إلّا إلى مزيد من تدهور الأوضاع، ونسعى جميعاً للاستقرار». هكذا، تُعيد عملية «بني براك» بوصلة الفلسطينيين مجدّداً نحو العدو الإسرائيلي، وتكشف الفجوة الكبيرة بين نهج «أبو مازن» ونهج المقاومة الذي يتبنّاه الفلسطينيون، كما وتُسخّن الأوضاع الميدانية أكثر، إذ إن تداعياتها ستقود إلى تزخيم عمليات إطلاق النار تجاه جيش العدو في جنين مجدداً، بسبب نيّة الأخير هدم منزل عائلة الشهيد حمارشة، فيما يتخوّف محلّلون إسرائيليون من أن يتّخذ شبّان آخرون من ضياء قدوة لتنفيذ سلسلة هجمات جديدة في الأيام والأسابيع المقبلة، خصوصاً أن السياق التاريخي يشي بأن العملية الناجحة دائماً ما تولّد عمليات أخرى مماثلة. ويأتي الحديث عن كلّ هذه السيناريوات في ظلّ استمرار تهديد فصائل المقاومة بالتصعيد، إذا ما أقدم العدو على «حماقات» واعتداءات أكبر على المسجد الأقصى، في حين تشير المعطيات إلى أن شهر رمضان سيكون ملتهباً هذا العام، على رغم هدوء «جبهة القدس» نسبياً.


ضياء حمارشة... من لم يَبِع أبداً
منفذ عملية «بني باراك» هو الشهيد ضياء حمارشة (27 عاماً)، من بلدة يعبد جنوب جنين. اعتُقل لمدّة نصف عام في عام 2013، بتهمة حيازة أسلحة وذخيرة بغرض الإتجار فيها. وبحسب معلومات «الأخبار»، فإن الشهيد عاش داخل أقسام حركة «فتح» آنذاك، وبعد خروجه تأثّر فكرياً بحركة «الجهاد الإسلامي»، وتحديداً جناحها العسكري. وللشهيد مهنّد الحلبي مكانة خاصة عند حمارشة، إذ كنّى الأخير نفسه بـ«أبو مهند»، ووضع صورة الحلبي كغلاف لصفحته الشخصية على «فايسبوك»، بينما وضع كـ«بروفايل» صورته في القدس بخلفيّة المسجد الأقصى. وعبر صفحته هذه، هاجم ضياء خيار التسوية والمفاوضات مع العدو، حيث كتب: «من باع أراضي الـ48 والـ67 ما رح تفرق معه يبيع باقي الأرض»، وانتقد فساد بعض المسؤولين وتفريطهم بالوطن، قائلاً: «في ناس قدمت أولادها للوطن، وفي ناس قدمت الوطن لأولادها».