رام الله | تفاوتت قراءات الفصائل الفلسطينية لنتائج الانتخابات المحلّية الأخيرة، وسط جنوح كلّ منها إلى اعتبارها مكسباً له، على الرغم من أن القياس عليها يبدو في غير مكانه، في ظلّ غياب البرامج السياسية عن التنافس، حتى في حالة حركة «فتح»، التي خاضت المعركة تحت مسمّى قوائم مستقلّة في عدد كبير من المجالس والهيئات المحلية. وأيّاً يكن، فالأكيد أن تحالف «حماس» - «الشعبية» أثبت فاعليته، مع أنه خسر معركتَي نابلس وقليقلية، وأن السلطة استطاعت الخروج بصورة «ديموقراطية»، ستعمل على ترويجها أمام «المجتمع الدولي» بوصفها مصدراً لاستمرار «شرعيتها»
أُسدل الستار على الانتخابات المحلّية في الضفة الغربية المحتلّة بعد انتهاء المرحلة الثانية منها، ليَحصد المستقلّون ما نسبته 64.4% من القوائم الفائزة، مقابل 35% للقوائم الحزبية. وفي ظلّ تغنّي حركة «فتح» بـ«الفوز الكاسح»، وابتهاج حركة «حماس» بالفوز في عدّة بلديات كبيرة عبر تحالفات مع قوى أخرى ومستقلّين، تبقى أسئلة كثيرة مشروعة حول هويّتَي الفائز والخاسر في هذه الانتخابات. وشملت المرحلة الثانية من «البلديّات» 50 هيئة محلّية في الضفة، بعدما اتّخذ رئيس السلطة محمود عباس، قراراً بتقسيم العملية إلى مرحلتَين، الأولى تضمّ قرى وبلدات وهيئات صغيرة سكّانياً وجغرافياً؛ والثانية تستهدف المدن الكبيرة من حيث عدد السكّان والمكانة التاريخية أيضاً، مثل: نابلس، الخليل، رام الله، والبيرة. ويرى مراقبون أن «فتح» أرادت من وراء هذا الإجراء إطلاق بالون اختبار في المرحلة الأولى، نظراً إلى إمكانية فوزها في عدد كبير من الهيئات المشمولة بها، لاعتبارات كثيرة أبرزها: سهولة التحكّم بالعوامل العشائرية والعائلية في البلدات الصغيرة بعكس المدن التي تضمّ عدداً أكبر وتنوّعاً أشمل، إضافة إلى اعتقاد الحركة بأن لها ثقلاً تاريخياً في هذه البلدات، بعكس المدن الكبيرة.
من جهتها، وعلى رغم مقاطعتها «البلديات» وتشديدها على ضرورة إجراء الانتخابات العامة بشكل متزامن بكلّ أشكالها، سمحت «حماس» لكوادرها وأنصارها بالمشاركة في الانتخابات المحلية بشكل غير رسمي، عازيةً ذلك إلى كوْن هذا الاستحقاق «خدماتياً بدرجة أولى» (تقدّم البلديات خدماتها من بنى تحتية، وكهرباء، وماء، ونظافة شوارع... لكلّ الفلسطينيين)، وليس سياسياً. وعليه، خاضت الحركة السباق تحت عنوان «قائمة مستقلّة» في عدد كبير من الهيئات المحلّية في مناطق مختلفة في الضفة، بالتحالف مع اليسار ومستقلّين. وبدأت تجربة التحالف بين «حماس» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في انتخابات نقابة المهندسين في الضفة العام الماضي، حيث فازت القائمة المشتركة بينهما بالانتخابات، وتقلّدت نادية حبش منصب نقيب المهندسين. وكانت فازت «قائمة القدس»، أيضاً، الشهر الماضي، بأكثر من 90%‎ من الأصوات في انتخابات نقابة المهندسين في غزة، علماً أنها تضمّ كلّاً من «حماس»، «الجهاد الإسلامي»، «الجبهتين الشعبية والديموقراطية»، «المبادرة الوطنية»، «جبهة النضال»، و«فدا»، بينما قاطعت حركة «فتح» هذا الاستحقاق.
أمّا في «البلديات»، فتُظهر معطيات حصلت عليها «الأخبار» أن «حماس» و«الشعبية» تحالفتا في أكثر من 23 قائمة مرشّحة لـ50 هيئة محلّية. ويقول مصدر قيادي في «الشعبية»، لـ«الأخبار»، إن شكل مشاركة الجبهة في الانتخابات المحلية ضمن المرحلة الثانية، تُرك للقيادات المحلّية في كلّ قرية أو مدينة، مؤكداً، في الوقت نفسه، أن الجبهة اتّخذت من تجربة التحالف في انتخابات نقابة المهندسين الأخيرة، دافعاً رئيساً لاستمرار التحالف في «البلديات»، معتبراً ذلك دليلاً على «قواسم مشتركة في الرؤى السياسية والاجتماعية». ويرى مراقبون أن من أهمّ أسباب التقارب بين «حماس» و«الشعبية»، ترهّل المشهد السياسي الفلسطيني، وتراجع دور «منظّمة التحرير»، وتوافق الفصيلَين على أن السلطة تمارس التفرّد والهيمنة على القرار الفلسطيني داخلياً وخارجياً.
اللافت في الانتخابات الأخيرة هو عزوف نحو نصف أصحاب الحق في التصويت عن الإدلاء بأصواتهم


وبرزت التحالفات بين «الشعبية» و«حماس» في مدينة البيرة المجاورة لمدينة رام الله بقائمة «البيرة تجمعنا»، وفي مدينة قلقيلية بقائمة «قلقيلية الأمل»، وأيضاً في الخليل تحت اسم «الوفاء للخليل»، وهي قائمة ضمّت مرشّحين محسوبين على «حماس» و«الشعبية» وحتى «فتح»، وترأّسها تيسير أبو اسنينة، القيادي في «فتح» ومنفّذ عملية الدبويا والأسير المحرَّر ورئيس البلدية السابق، والذي رفضت حركته إدراجه على قوائمها، فبدأ مشاورات مع الفصائل وشخصيات أفضت إلى تشكيل قائمة «الوفاء للخليل». أمّا في نابلس، فبرزت قائمة «العزم» التي ضمّت مستقلّين وشخصيات من «حماس» و«الشعبية»، إلى جانب قائمة «كرميون» في طولكرم. في المقابل، سمحت «فتح» لعناصرها، كالمعتاد، بالترشّح والتنافس بأكثر من قائمة في الهيئة المحلّية الواحدة، حتى وصل عددها إلى أكثر من ثلاث قوائم في بعض مناطق الضفة، مثل العيزرية، ما يعني أن شخصيات أخرى من «فتح» أو محسوبين عليها ترشّحوا ضمن قوائم مستقلّة أيضاً. ويعود ترشُّح المتحزّبين ضمن قوائم مستقلّة إلى عدّة أسباب من بينها، بالنسبة إلى «حماس»، الخوف من الملاحقة وحملات الاعتقال الإسرائيلية والاتهامات بالعمل التنظيمي الرسمي العلني؛ وفي حالة «فتح»، رفض الأخيرة إدراج بعض المرشّحين على قوائمها الرسمية، أو عدم رضى هؤلاء عن أداء الحركة، أو حتى عن ترتيبهم في القائمة، أو سعي التنظيم نفسه للمشاركة بأكثر من قائمة، لضمان إرضاء العائلات والعشائر ومنتسبيه عبر ما يُعرف بـ«قائمة أو قوائم الظلّ».
وفي النتائج، فازت حركة «فتح» في جنين بقائمة «البناء والتحرير»، التي لم تنافسها أيّ قوائم حزبية أو تحالفية تضمّ مرشّحين محسوبين على فصائل معارضة للسلطة. وفي رام الله أيضاً، فازت قائمة «أبناء البلد» التابعة لـ«فتح»، وفي نابلس قائمة «نابلس تختار» المُصنَّفة مستقلّة، والمدعومة من «فتح»، والتي تضمّ شخصيات من الحركة وأخرى مجتمعية وليست «فتحاوية»، لكنها لم تتقدّم بأكثر من مقعد واحد عن قائمة «العزم» التي ضمّت تحالفاً بين «الشعبية» و«حماس» ومستقلّين. أمّا في قلقيلية، فقد جاءت النتيجة صادمة لأنصار «حماس»؛ إذ فازت قائمة «فتح» الرسمية على قائمة «البناء والأمل» المستقلّة، والتي ضمّت تحالفاً بين «حماس» و«الشعبية». وكانت هذه النتيجة غير متوقّعة بالنظر إلى أن رئيس القائمة المستقلّة هو الشيخ وجيه قواس، أحد مبعَدي مرج الزهور والأسير المحرَّر الذي يتمتّع بشعبية واسعة أهّلته سابقاً للفوز في الانتخابات البلدية عام 1996، في ذروة شعبيّة السلطة الفلسطينية مقارنةً بالوقت الحاضر.
على أن الصورة المعاكسة تجلّت في مدن أخرى، وتحديداً في الخليل حيث فازت قائمة «الوفاء للخليل» بفارق مقعدَين عن قائمة «فتح»، وشكّلت النتيجة صدمة للأخيرة وللسلطة، إذ علمت «الأخبار» أن «فتح» وضعت ثقلها في الخليل، وكثّفت من جهودها للفوز عبر انتهاج عدّة أساليب، أبرزها: عقد صفقات ومباحثات مع عشائر مقابل التصويت لها، وإفراج أمن السلطة عن عدّة موقوفين، وحصول عدد آخر من المطلوبين على عفو، وضمان عدم ملاحقة قسم ثالث مقابل التصويت لـ«فتح»، علماً أن الأخيرين مطلوبون على خلفيّة عمليات إطلاق نار وشجارات داخلية وعائلية في الأشهر الأخيرة. أمّا في طولكرم، فقد فازت قائمة «كرميون» التي تضمّ تحالفاً بين «حماس» و«الشعبية» ومستقلّين، بثمانية مقاعد مقابل سبعة لقائمة «فتح» الرسمية. وفي مدينة البيرة كذلك، فازت القائمة التحالفية بين «حماس» و«الشعبية» والمستقلّين، «البيرة تجمعنا»، على رغم أن جيش العدو اعتقل رئيس القائمة قبل يومين من بدء الاقتراع وحوّله إلى الاعتقال الإداري.
اللافت في الانتخابات الأخيرة هو عزوف نحو نصف أصحاب الحق في التصويت عن الإدلاء بأصواتهم، إذ بلغت نسبة الناخبين المشاركين نحو 53% فقط، وتراجعت نسبة المُصوِّتين في المدن الكبيرة. ويرى محلّلون أن أسباب هذا العزوف عن الانتخاب تعود إلى فقدان شريحة كبيرة من الفلسطينيين الثقة بالفصائل والحياة السياسية بسبب الانقسام، وقرارات السلطة وسياستها. في المقابل، ارتفعت نسبة التصويت في الريف، لرغبة الفلسطينيين هناك في اختيار ممثّليهم في البلديات، وهذا واقع تاريخي، بالنظر إلى أن العائلات تلعب دوراً كبيراً في المجالس القروية والبلدية الصغيرة مقارنة بنظيرتها في المدن. ولا يمكن اعتبار الانتخابات الأحدث تنافساً بين برامج سياسية مختلفة أو فصائل متنوّعة، نظراً إلى وجود قوائم المستقلّين؛ فحركة «فتح» مثلاً خاضت الانتخابات تحت مسمّى قوائم مستقلّة في عدد كبير من المجالس والهيئات المحلية، ولم تقدّم في برامجها أيّ برنامج حزبي بحت، فيما حركة «حماس» لم تشارك هي الأخرى بشكل رسمي وعلني، ولم تطرح برنامجاً سياسياً واضحاً. وبالتالي، فإن القياس على نتائج هذه الانتخابات لاستقراء شعبية الفصائل، يبدو في غير مكانه.
بالنتيجة، وبينما تعتبر حركة «فتح» نتائج البلديات «فوزاً كاسحاً»، يعدّها أنصار «حماس» مكسباً لهم، وإن كانت دون المأمول، خاصة مع عدم حسم النتائج لصالحهم في نابلس وقلقيلية. وإجمالاً، أعادت السلطة، على نحو أو آخر، تثبيت حضورها في عدد من المدن الرئيسة وفي عدد كبير من المجالس المحلّية في الريف، كما أنها وفّرت صورة «ديموقراطية» لها أمام «المجتمع الدولي»، خاصة مع استمرار عدم عقد الانتخابات التشريعية والرئاسية وانتخابات المجلس الوطني.