بات واضحاً أن ثمّة مسارَين متوازيَيْن بخصوص الصراع مع العدو الإسرائيلي، يسيران على حدّ السيف، بلا أيّ حالة من اليقين حول مآلاتهما: واحد متمثّل في تطبيع الأنظمة العربية، وآخر مقاوم يعيد فرض نفسه بالتوازي مع أو ربّما بسبب الخذلان العربي نفسه لفلسطين. وإذا كان لكلّ من المسارَين عرّابون وحلفاء وأتباع، فإن من بين هؤلاء مَن لا ترتبط أهدافه النهائية بما يُشاع من مواضيع وقضايا، بل بصراع محاور بين قطبَين: الاحتلال والهيمنة مقابل المقاومة. في هذا السياق بالضبط، جاءت العمليتان الفلسطينيتان اللتان نُفّذتا في أراضي عام 1948 خلال أسبوع واحد، وخلّفتا مشاهد لم تكن مألوفة في مدن الداخل المحتلّ منذ أكثر من عشرين عاماً، أي منذ أن نفّذت قوات الاحتلال عملية «السور الواقي» عام 2002. في الوقت نفسه، كانت الأنظمة العربية المُطبّعة تعزّز مساراً مغايراً، عبّر عن نفسه في «قمّة النقب» التي حملت رسالة «التآزر والصف الواحد»، وكذلك «المصير المشترك» بين العدو وهذه الأنظمة، وهو ما جرى إعلانه أمام قبر دافيد بن غوريون، مؤسّس إسرائيل ورمزها، لتكتسب القمّة بُعداً إضافياً، إلى جانب التخاذل، هو المَهانة غير المبرَّرة، حتى بحسابات الجدوى. وسواء قصد المقاومون أم لا، فإن الفعل الأوّل إنّما هو ردّ على الثاني، وكلاهما يعبّران عن نفسَيهما على الأرض، وفي الداخل المحتلّ نفسه.في الخلفيات، يمكن الإشارة إلى أن «قمة النقب» تأتي بعد ارتفاع منسوب القلق لدى الأنظمة الموالية لواشنطن، وعلى رأسها السعودية (المُمثَّلة في القمّة عبر الوكيل البحريني) والإمارات ومصر والمغرب. وفي هذا الإطار، أُريد للقمّة التي انعقدت على مستوى وزراء الخارجية أن تبعث برسائل في أكثر من اتّجاه - وإن جاءت عملية الخضيرة لتحرف التركيز عنها -، أبرزها طمأنة الجانب الأميركي، بمعيّة إسرائيل، حلفاءه إلى أنه سيعيد الثقة إليهم، بعد تململٍ أظهروه في الفترة الأخيرة إزاء التطنيش الأميركي لهم - على رغم تصاعُد التهديدات المحدقة بهم - على خلفية تركيز الولايات المتحدة على أماكن أخرى في العالم، ترى أنها تستأهل الاهتمام أكثر من منطقة الشرق الأوسط، أي شمال أوروبا والصين.
كما أن القمة تنطوي على رسالة تهدئة إلى إسرائيل نفسها، التي ترى، كما حلفاؤها في الخليج، أن انسحاب واشنطن من المنطقة، وما يُسمّى «الخضوع للابتزاز الإيراني»، يؤثّران سلباً على الأمن القومي الإسرائيلي، الذي بات يعاني ثقوباً كبيرة جداً، لا يمكن سدّها من دون مؤازرة الراعي الأميركي. وهكذا، فإن القمّة تُعدّ بمثابة مساندة معنوية للحلفاء في مواجهة المخاطر التي يَرونها داهمة، والمتمثّلة في قدرات «محور المقاومة»، التي ساهم الانكفاء الأميركي في صعودها، قبل أن تبدأ واشنطن، ومن دون أيّ حدود أو ضوابط، بالتنازل أمام رأس هذا المحور، أي إيران، الأمر الذي يعني أيضاً ارتفاع المخاطر التي تمثّلها هذه الأخيرة.
يجتمع ممثّلو الأنظمة العربية في النقب لتأكيد اصطفافهم خلف الولايات المتحدة على رغم سخطهم عليها


مع ذلك، يجتمع ممثّلو الأنظمة العربية المُطبّعة في النقب (بغياب وزير الخارجية الأردني، في ما يحمل أكثر من رسالة إلى الحلفاء والراعي الأميركي، أهمها حذف القضية الفلسطينية من على طاولة الفعل والمبادرة، وسط غليان فلسطيني في الأراضي المحتلة، يؤدي إلى الإضرار بالنظام الحاكم في الأردن، لكن هذا الاعتراض لن يفسد في الودّ قضية على الأرجح) اصطفافهم خلف الولايات المتحدة، وإن كانوا مدركين أن التطمينات الأميركية لهم لا تتجاوز حدود الفعل الكلامي، وأنها لن تحدّ من التهديدات المحدقة بهم، كما لن توقف المسار الذي تختطّه المقاومة في فلسطين، والذي تشكّل العمليتان الأخيرتان في الداخل المحتلّ أحدث تجلّياته. وفي هذا الإطار، لا تنكر التقديرات الأمنية في الكيان العبري حقيقة أن العمليتَين إنّما تشكّلان ردّاً على «قمّة النقب»، ولو أن غايتهما الرئيسة في مكان آخر، ولعلّ ما تَقدّم هو واحد من أهمّ تداعياتهما، كما يَرِد في النقاشات الدائرة في تل أبيب. من ناحية ثانية، تركّز التقديرات الإسرائيلية على كون الهجومَين تعبيراً عن مسار بدأ للتوّ ويُقدَّر له أن يستمرّ، في صورة عمليات يُلهم بعضُها بعضاً. وهنا، يتداخل المعطيان الخاص والعام، فيما تتقاطع ساحة الداخل مع ساحات القدس والضفة وغزة، ناهيك بالترابط، بقصد أو من دونه، بساحات المواجهة الأخرى الأكثر إثارة للقلق، ما يعني أن إسرائيل ستكون أمام عدّة تحدّيات يمكن تلخيصها بالآتي:
أوّلاً: ستكون تل أبيب معنيّة بمعرفة ما إن كانت العمليتان متأتّيتَيْن من قرار «ذئاب منفردة»، أم أنهما نتيجة قرار من أعلى عبر تنظيم ما. وفي هذا الإطار، يوضع تنظيم «داعش» الذي تبنّى العمليتَين على قائمة الاحتمالات، على رغم أن إعلان المسؤولية نفسه لا يعبّر في العادة عن حقائق الواقع.
ثانياً: ستكون إسرائيل معنيّة بالردّ على العمليتَين، عبر إجراءات عقابية تأمل أن تردع الآخرين عن تقليد المنفّذين، من دون أن تكون الإجراءات نفسها سبباً في الدفع نحو عمليات جديدة؛ وتلك مفارقة تستأهل المراقبة والمتابعة.
ثالثاً: يبدو أن التقديرات الإسرائيلية حول إمكانية التدحرج إلى مواجهة في شهر رمضان، ستردع سلطات الاحتلال عن اتّخاذ إجراءات عقابية كان يُفترض، في هذه الحالة، أن تكون أوسع وأشمل، وأن تتمدّد في اتجاه الضفة الغربية وقطاع غزة. وتلك واحدة من النتائج التي تعبّر عن تشابك القضايا والجبهات، من دون إمكانية عزلها بعضها عن بعض، حيث ترفد كلّ منها الأخرى بعوامل المِنعة.
رابعاً: أثّرت العمليتان، بوصفهما - كما ظهرتا على الأقلّ - ردّاً على «قمّة النقب» على ما أراد الأميركي تحصيله من القمّة، والذي كان متركّزاً على الشكل دون المضمون؛ كون مضمونهما أكثر تأثيراً في الوعي، من تأثير الشكل المتجسّد في اجتماع النقب.