تونس | لا تجري رياح الاستشارة الوطنية حول تعديل النظام في تونس، بما تشتهي رغبات الرئيس قيس سعيد، بل تكاد تتحوّل إلى أكبر الإخفاقات التي واجهته منذ اتّخاذه الإجراءات الاستثنائية في 25 تموز الماضي، إذ آلت كلّ محاولات بثّ الروح في هذه الاستشارة إلى الفشل، بعدما لم يتجاوز عدد المسجَّلين فيها الأربعمئة ألف مشارك فقط، من ضمن ما يفوق ستة ملايين شخص من ذوي الأهلية القانونية للمشاركة والانتخاب. وتَمثّلت أحدث تلك المحاولات في دعوة سعيد وزير الداخلية، توفيق شرف الدين، إلى القصر الرئاسي، والحديث معه حول «ضرورة تجاوز العقبات المفتعلة التي تواجهها الاستشارة الوطنية»، وفق ما ورد في بيان لرئاسة الجمهورية. ومن بين الأسباب التي تمّ إيرادها في البيان نفسه «التعرّض للمضاربة والاحتكار وتدليس وثائق تُنسب إلى الرئيس وتُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي»، ليُستَنتج من الحوار المقتضب بين سعيد وشرف الدين أن الإخفاق يعود إلى ظرف محتقن جرّاء حملة تشويه استهدفت الرئيس عبر وسائل عدّة، من بينها نشر رسالة مُوجَّهة إلى الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، مُوقّعةٍ باسم سعيد، تحمل عبارات التذمّر من الضغط الغربي. ويرى مراقبون أن الأسباب المذكورة، على أهمّيتها، بالنظر إلى أن أموالاً طائلة صُرفت لتشويه صورة سعيد، ليست كافية وحدها لإفشال المبادرة. ويعتقد هؤلاء أن الاستشارة ولدت ميتة، لأسباب عدّة من بينها أن الرئيس اختزل علاقته مع التونسيين بالصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية، وتكاد تكون صلته بالإعلام المحلي مقطوعة تماماً، ما جعل النقاش العام حول مبادرته منعدماً، باستثناء تعليقات على الصفحة لا تردّ عليها الرئاسة. وتَعوّد التونسيون سابقاً على حوارات طويلة في وسائل الإعلام حول المحطّات الانتخابية والتشاركية، وكانت هذه الحوارات باباً للفهم والنقد والمعارضة أو المساندة، وحتى أولئك الذين لا يتابعون الإعلام كانت «الهيئة العليا المستقلة للانتخابات» تقوم بدور توعوي لهم، لكنها في هذا الاستحقاق سُلبت أيّ دور. ويعود ذلك إلى أن سعيد لا يثق بالهيئة، لعوامل من بينها ما صدر بشأنها عن محكمة المحاسبات من حديث عن إخلالات خلال المواعيد الانتخابية الماضية، علاوة على تقاذف التهم بين أعضائها حول اتفاقات مع أطراف سياسية أدّت إلى التغاضي عن جرائم انتخابية والإبقاء على مقاعد لمصلحتهم. وقد كانت التهم المُشار إليها، والتي ساقها أعضاء مجلس الهيئة مدعومة بوثائق وتسجيلات، كافية في بيئة ديموقراطية لإقالتهم جميعاً والتحقيق معهم، ولكنّ الظرف السياسي في عام 2019، واستفادة الأطراف الحاكمة من تلك الخدمات، أبقيا الادّعاءات المذكورة في إطار الكلام فقط. وبناءً عليه، استبعد سعيد أعضاء الهيئة من كلّ ما يتّصل بالاستشارة على رغم مطالبتهم بإشراكهم فيها، واستعاض عنهم بأعضاء الحملة التفسيرية للرئيس وبعض المحافظين والمعتمدين (مديري النواحي)، إلّا أنه كانت لخطوته آثار عكسية، حيث استعاد التونسيون صورة الموظفين الحكوميين الذين كانوا يبالغون في التزلّف لنظام زين العابدين بن علي، ويخدمونه بأساليب بعيدة عن مفهوم الدولة.
يواجه مشروع سعيد للاستشارة الوطنية صعوبات جمّة وسط مقاطعة من النُّخب الثقافية والسياسية لها


هكذا، وبدلاً من أن تكون فرصة لمشاركة حقيقية في صياغة الشأن العام وإبداء الرأي في النظام السياسي الجديد، تآكلت مبادرة سعيد شيئاً فشيئاً جرّاء توقيتها السيّئ وإعلانها في مناخ غير ديموقراطي، ضاعف آثارَه غيابُ النُّخب، لا السياسية التي لم تَعُد تحظى بالدعم الشعبي، وإنما النُّخب المثقفة ووسائل الإعلام التي نأت بنفسها عن المشاركة في مبادرة ستجعلها جزءاً من «بلاط الحاكم»، ومُروّجةً لمشروع غير مفهوم المعالم. يُضاف إلى ما تَقدّم أن ارتفاع سقف التوقّعات من سعيد، الذي لم ينفكّ يُحدّث التونسيين عن حزمه تجاه من يعبثون بقوْتهم من دون أن يترجم ذلك إلى أفعال، أدّى إلى إحباط واسع بعد مرور ستّة أشهر على إجراءاته، بل زادت موجة فقدان المواد التموينية حدّة الإحباط، وجعلت السخط أوسع في دائرة الفقراء الذين كانوا سابقاً يعتقدون بقدرة «الرجل الخارق» على إنقاذ البلاد والعباد. ولعلّ تفطُّن الرئيس إلى توسّع هذه الدائرة هو ما دفعه، يوم الثلاثاء الماضي، إلى مغادرة قصره والتوجّه إلى مخبز شعبي، حيث التقى مواطنين بسطاء، وحدّثهم عن «المؤامرة» التي تُحاك ضدّه باحتكار المواد التموينية بغاية تهريبها وحرمان التونسيين منه، فيما لم يَعُد مضموناً أن تنطلي هذه المسكّنات على التونسيين. ويتوقّع مراقبون أن يستمرّ سعيد في محاولة إيجاد سبل لتسويق مبادرته وإنجاحها، كون فشلها يعني أيضاً فشل مقولة «الشعب يريد»، التي ينسج حولها سعيد كلّ خطاباته، وتضمن ديمومته، وتقلّل من حدّة الضغط الإقليمي والدولي عليه.