غزة | «مين إيمان حجو؟»، تساءل أحد الطلّاب المتفوّقين في الصف العاشر مُقاطِعاً معلّمه، أثناء تقديمه درساً يتحدّث عن مجزرة الطنطورة. أدرك المعلم، لاحقاً، أنّ طلاب الصف العاشر الأساسي، وهم من مواليد عام 2006، لم يعيشوا أحداث انتفاضة الأقصى الثانية، لذا، بدا منطقياً أن يجهل بعضهم الطفلة حجو، وهي واحدة من أيقونات الانتفاضة. اليوم، صار ينبغي أن يُعرَّف ما كان في السابق معروفاً. وإذا كان هذا هو الحال مع حدث معاصر ما زالت شواهده وصوره الحيّة متوفّرة إلى الآن، فيكف سيكون مع تاريخ القضية، من النكبة إلى مجازر دير ياسين وقانا وصبرا وشاتيلا؟ «هنا بالضبط، تتّضح خطورة الرقابة الأوروبية الصارمة على المناهج، تلك التي تهدف إلى تجريد الكتب الدراسية من هذه الشواهد، ونماذج البطولة»، يقول محمد المبحوح، وهو معلّم لمادة التاريخ في إحدى المدارس الحكومية في قطاع غزة. ويتابع المعلّم الشاب: «الجيل الجديد، الذي تغزوه مصادر الثقافة المتباينة، سيغرق في معاصرة الأحداث، من دون أن يمتلك إحاطة بماضيه الوطني، وإذا أهملت المناهج هذا الجانب، فنصحو ذات يوم، على جيل يعرف عن تاريخ روما وتطوّرات وادي السليكون، أكثر ممّا يعرف عن وطنه».حكاية الرقابة على المناهج الدراسية، والتي تتمثّل آخر فصولها في حجب الاتحاد الأوروبي ملايين الدولارات من تمويل السلطة الفلسطينية، بدعوى اشتمال تلك المناهج على قيم «تعادي السامية وتحضّ على العنف والكراهية»، لم تبدأ في أعقاب تقرير «معهد جورج إيكرت» الألماني، الذي موّله الاتحاد الأوروبي عام 2018، وشمل دراسة 172 كتاباً مدرسياً، إنّما في عام 1998، عندما قام «معهد مراقبة أثر السلام» سابقاً، وحالياً «معهد مراقبة السلام والتسامح الثقافي في التعليم المدرسي» ( IMPACT-SE)، بالتحريض على المناهج الدراسية الفلسطينية أولاً، ثمّ العربية، وعمل طوال سنوات على تشكيل رأي عام دولي ضدّ المناهج الفلسطينية، بدعوى تحريضها على العنف والتنظير لكراهية اليهود، وقدّم سردية مفادها أن «الفلسطينيين يعترفون باتفاقيات السلام ولا يطبّقونها على أرض الواقع في مناهجهم». وأخيراً، استند المعهد إلى درس يوثّق سيرة الشهيدة دلال المغربي، لطلاب الصف الخامس الابتدائي، في الادّعاء أن السلطة الفلسطينية لم تجرِ أيّ تعديلات على مناهجها، منذ أجرى «معهد جورج إيكرت» دراسته للمناهج الفلسطينية، زاعماً أن الدروس التي يتلقّاها الطلاب الفلسطينيون لا زالت «تحرّض على الكراهية ومعاداة السامية والعنف». وخلال السنوات الثلاث الماضية، أصدر سلسلة من التقارير التي حرّض فيها الاتحاد الأوروبي، وهو أكبر مموّلي السلطة الفلسطينية، على الامتناع عن توفير التمويل الذي تُدفع منه رواتب موظفي وزارة التربية والتعليم، ويُجتزأ قسم آخر منه لطباعة المنهاج التعليمي بشكل سنوي. و«IMPACT-SE» هو منظّمة إسرائيلية غير ربحية تتولّى مراقبة محتوى الكتب المدرسية، وقد أدّت دوراً لافتاً في الضغط على الحكومة المصرية لتعديل مناهجها بما يساهم في تمييع النظرة العربية إلى إسرائيل، ومارست الدور نفسه ضدّ كلّ من سوريا والأردن.
عمل «معهد مراقبة أثر السلام» طوال سنوات على تشكيل رأي عام دولي ضدّ المناهج الفلسطينية


وبالتزامن مع جهود المعهد الإسرائيلي، شنّ الإعلام العبري حملة تحريض منظّمة على السلطة الفلسطينية. وذكرت صحيفة «جيروزاليم بوست»، مثلاً، أنه على الرغم من الوعود التي قُطعت للدول المانحة بمراجعة الكتب المدرسية، فقد أعادت وزارة التربية والتعليم في السلطة الفلسطينية طبع الكتب المدرسية العام الماضي، مع القضايا نفسها التي أثارها الاتحاد الأوروبي. وبناءً عليه، طالب مفوض الاتحاد لسياسة الجوار ومفاوضات التوسع، أوليفر فاريلي، بـ«مؤشرات عملية واضحة» للتحقّق ممّا إذا كانت الكتب المدرسية الفلسطينية تلتزم بالمعايير الدولية. واقترح فاريلي حجب حوالى 10 ملايين دولار «ما لم تُلبَّ الكتب المدرسية للسلطة الفلسطينية المعايير الدولية»، وتحدّث علناً عن رغبته في فرض شروط أكثر صرامة على المساعدات الأوروبية لقطاع التعليم التابع للسلطة.

القدّيس المعذّب
محمود مطر، وهو مدير عام الإشراف والتأهيل التربوي في وزارة التربية والتعليم في غزة، رأى أن المنهاج الفلسطيني لديه نقص في جانب القيم الوطنية الفلسطينية التي لا بدّ من تقويتها، مستغرباً الادّعاءات التي تُفيد بأنه يحرّض على العنف وعدم التسامح، فيما تساءل محمد أبو علي، وهو مدرّس لمادة اللغة العربية، عن الدور المطلوب من المناهج الدراسية لشعب يرزح تحت الاحتلال: «هل المطلوب من الفلسطيني الذي يعايش الجرائم الإسرائيلية كلّ يوم، وتشكّل الحروب تأريخ طفولته، أن يكون قدّيساً معذباً؟». واستهجن محمد المبحوح، الذي اطّلع على نتاجات «معهد جورج إيكرت» المُموَّل من الاتحاد الأوروبي، من جهته، التدقيق في جزئية «خطاب المقاومة» في المناهج الدراسية، في الوقت الذي تفرض فيه ممارسات الاحتلال حضورها الطاغي على حياة الفلسطينيين. وقال: «نحن نتكلّم عن أجيال تعيش حياة يرسم الاحتلال تفاصيلها، سواءً في حالات الإعدام اليومية التي تمارَس بحق الشبان على الحواجز في الضفة المحتلة، أو بالصورة البصرية التي يرسمها الجدار العنصري الذي يطوّق مدنهم، أو في غزة، التي يعيش فيها جيل كامل، عايش خلال 10 أعوام من عمره ثلاث حروب مدمّرة، هم يطالبوننا بأن نقفز عن كلّ هذه المضامين اليومية في مناهجنا التعليمية، هل مطلوب منا أن ندرّس أبناءنا تاريخ جزر القمر؟».

السلطة في مهبّ الابتزاز
وكانت المفوض العام للاتحاد الأوروبي، ماتشس بوبسكي، قد بعثت، نهاية العام الماضي، في ما بدا استجابة للضغوط الإسرائيلية، برسالة إلى رئيس الحكومة الفلسطينية، محمد اشتية، طالبته فيها بتعديل المناهج التعليمية بطريقة يتمّ فيها القفز عن المضامين الإشكالية كافة، وقالت: «لا يوجد تسامح لدى الاتحاد الأوروبي حيال العنف والكراهية»، مشدّدة على أن «هذه أسس غير قابلة للتفاوض». لكن اشتية أكد، في معرض ردّه على الرسالة خلال جلسة الحكومة الافتتاحية في نهاية العام الفائت، أن «المنهاج الفلسطيني نتاج تاريخنا وثقافتنا ونضالنا وديننا ومساهمتنا الحضارية عبر آلاف السنين». وأضاف أن «ما لم يتمّ التنازل عنه على طاولة المفاوضات لن يتمّ التنازل عنه في المنهاج، القدس عاصمة دولة فلسطين في المنهاج وفي السياسة وفي الاقتصاد». وتابع أنه «إذا كان البعض يربط مساعداته لنا بهذا، فإننا سنموّل طباعة كتبنا من فاتورة الماء والتلفون والكهرباء إن لزم». وجدير بالذكر أن المساعدات الدولية التي تتلقّاها السلطة تقلّصت من 1.3 مليار دولار في عام 2011، إلى 400 مليون دولار خلال عام 2020، وذلك بعد تجميد دول الاتحاد الأوروبي الجزء الأكبر من مساعداتها الممنوحة للسلطة. وخلال العامَين الماضيَين، اقتصرت مساعدات الاتحاد على عشرات الملايين من الدولارات، جرى صرفها خلال جائحة «كورونا»، في مقابل تجميد حزمة مساعدات كبرى تبلغ قيمتها 600 مليون دولار.