كلما أطلّ تاريخ 14 شباط، ظهرت فرقتان من البحرينيّين: فرقة تحتفي بالتاريخ بوصفه ذكرى ميثاق العمل الوطني، وأخرى تستذكر الانتفاضة التي اندلعت عام 2011، وحملت الأمل والألم، وأفضى إخمادها إلى الكثير من الجراحات التاريخية والسياسية، بما يساوق جروح أجساد روّادها وعذاباتهم. بين الاحتفاء بالميثاق والاحتفاء بالانتفاضة، تتعالى أصواتٌ من الفريقَين للحلحلة والإصلاح، وتتسامق في خضمّ الجدل أسئلة تستفسر عن أيّ إصلاح نتحدّث، سواءً في كيفيّته وطريق الوصول إليه، أو في جدواه من الأصل، من دون الوصول إلى إجابة. لنتّفقْ ابتداءً على أنّ الإصلاح يحتاج إلى أمرَين، لا أعتقد أن ثمّة مَن يختلف على أهمّيتهما في إيجاد أرضية للإصلاح، وهما: الأوّل، القدرة/ الطاقة على الإصلاح؛ والثاني: إيجاد أدوات الوصول إليه باستخدام تلك القدرة أو تلك الطاقة. من دون هذين العاملين، يغدو الكلام عن هذا الخيار بعيداً من الواقع، الأمر الذي يفضي إلى جدل لا طائل منه.بالنظر إلى العامل الأول، فإن القدرة على الإصلاح تحتاج إلى قرار يَصدر من السلطة... السلطة نفسها التي سنّت قانون العزل السياسي، وأغلقت الجمعيات، واعتقلت رموز المعارضة وقياداتها مع آلاف المواطنين، وسدّت الأبواب أمام مبادرات السيد عبد الله الغريفي، الرجل الثاني في التيار الإسلامي في البلاد. القرار ينبغي أن يقلب كلّ تلك الشروخ والجروح إلى حلول وتعويضات، لإيجاد أرضية صالحة لوضع التصوّرات للإصلاح. لكن المشكلة أن السلطة غير قادرة على اتّخاذ قرار بهذا الوزن، لأسباب عديدة أبرزها ما يلي:
الأوّل: السياق التاريخي للسلطة لا ينبئ بأنها تنحو إلى الإصلاح ولو الجزئي والشكلي، إلّا إذا تزايدت عليها الضغوط الخارجية على نحو جادّ، وهذا غير موجود لأسباب كثيرة، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي.
الثاني: القرار في شأن كهذا كان يُتّخذ في بيت الحُكم الخَليفي، بعد ضوء أخضر من البريطاني سابقاً، والأميركي لاحقاً، لكن الذي عقّد هذه المشهدية هو أن أكثر من طرف بات ممسكاً بزمام القرار، فالإماراتي والسعودي ينفذان بشكل عميق بعد 2011، الأمر الذي صادر القرارات السيادية من السلطة المحلية، وجعلها مقسّمة على أكثر من مُشغّل. وما زاد الأمر تعقيداً، دخول الإسرائيلي على الخطّ، إذ إن الاتفاقيات التي توالت بين الكيان الصهيوني والبحرين بُعيد التطبيع في أيلول 2020، كثير من تفاصيلها مضرّة بالسيادة من الأساس. وأمّا الاتفاقية الأمنية بين البحرين والكيان، فإنها بلاء آخر على القرار السيادي، الذي إن بقي منه شيء فسيتلاشى مع هذه الاتفاقية التي تجيز للصهاينة الإشراف والتعاون مع كلّ الأجهزة الأمنية في البلاد، أي ستكون الأجهزة الأمنية المحلّية في يد «الموساد».
الثالث: البحرين، بوصفها حلقة من حلقات المحور الأميركي، فهي معنيّة بهذا الصراع الخارجي الكبير والمحتدم، والذي لم يضع أوزاره بعد. وهنا، ينبغي الالتفات إلى أنّ المقصود ليس انشغال البحرين بالصراع، وبالتالي عدم قدرتها على التفرّغ للحلول الداخلية، إنّما المقصود أنّ نفس الحلول المحلّية تحتاج إلى أجواء خارجية تُساوقها في الجنس وتُوازيها في الطبيعة. بمعنى آخر، الحل ّالداخلي من جنس القرار الخارجي، لا خارجاً منه ولا منفكّاً عنه.
بتغيير التركيبة السكانية، تغدو طبيعة المواطنين مختلفة، في الميول والتطلّعات وحتى في التوجّه السياسي


هذا في ما يتعلّق بالقدرة، أمّا على مستوى الأدوات المؤدّية إلى سبيل الإصلاح، فإنها تتقلّص مع مرور الزمن. ولعلّ في هذه الحيثية تتعمّد السلطة اللعب على عامل الوقت، فكلّما مرّ الوقت أكثر، كلّما اكتسبت السلطة مساحة أكبر في أمرَين خطيرَين ينبغي التنبّه إليهما:
الأول: عامل التجنيس السياسي الذي يتزايد يوماً بعد آخر، وينبئ بتهديد الديموغرافيا، التي يراد من تغييرها تغيير التاريخ وطيّ صفحة النضال الوطني، الذي استمرّ لأكثر من قرنين بوجه استبداد العائلة الخليفية رغم كلّ التضحيات. فبتغيير التركيبة السكانية، تغدو طبيعة المواطنين مختلفة، في الميول والتطلّعات وحتى في التوجّه السياسي، وستصبح الخيارات السياسية في يد السلطة لا يد المواطنين التاريخيين من سنّة وشيعة في هذه البلاد الصغيرة.
الثاني: عمدت السلطة، منذ بداية الثورة، إلى تهجير ثلاثة من فقهاء الدين الشيعة، والذين يمثّلون حيثية كبيرة في العقل الجمْعي للطائفة الشيعية، وهم: الشيخ عيسى قاسم والشيخ محمد سند والشيخ حسين نجاتي، وجرّدتهم من الجنسية. وفي الوقت نفسه، أبقت على اعتقال الرموز السياسية في السجن بتهم مختلفة، ولا تريد الإفراج عنهم رغم تقدُّم معظمهم في العمر واعتلال صحّة أغلبهم.
هذان الأمران، بضميمة قانون العزل السياسي وغلق الجمعيات السياسية، يكوّنان استنتاجاً أشبه باليقين بأن السلطة تريد إيجاد صفّ جديد لمعارضة مدجّنة يمكن تحريكها أو تطويعها. فالوجوه الصلبة، إن رحلت عن الحياة، أو تقاعدت لشدّة المرض أو الهرم، تستطيع السلطة بَعدها الكبس على وعي الشبيبة بالترهيب والترغيب، مع الأوراق السياسية الأخرى آنفة الذكر، وعليه تدير العملية السياسية وقتذاك بالصورة التي ترغب. وإذا كُسفت السيادة الوطنية عن البلاد، لم يجد الإصلاح ما ينيره. وإن صارت البحرين بين خسوف الإصلاح وكسوف السيادة الوطنية، لن تفلح الأمنيات إن صلّت الآيات، فالمقادير إنّما تجري بالأسباب.
من هنا، يشتغل المواطنون في الرابع عشر من شباط على إذكاء الوعي. الوعي فقط هو المعركة الحالية التي يمكن الاشتغال عليها، لكي لا تتمكّن السلطة من اللعب على الوقت، ويفشل سعيها في إيجاد معارضة مدجّنة كما تصبو.

* باحث وكاتب بحريني