«أنا فهمتكم»، بهذه العبارة تَوجّه الرئيس التونسي الراحل، زين العابدين بن علي، في خطابه الأخير، إلى الجماهير المحتشدة للمطالبة برحيله عام 2011، ولكن عبارته تلك جاءت بعد فوات الأوان. وبعد نحو شهر من خطابه ذاك، خرج ملك البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة، بخطاب باهت منتصف شباط 2011، وتحديداً بعد سقوط أوّل شهيد في الانتفاضة (علي مشميع)، لا ليقول للبحرينيين: «أنا فهمتكم»، بل ليعكس الصورة من خلال مرآته المكسورة، مجترّاً الحديث عن أن البحرين دولة مؤسّسات وقانون وحرّيات وإصلاحات سياسية، ومنكراً حقيقة خروج الجماهير للمطالبة بحقوقها المشروعة، بل وناصحاً المواطنين بعدم مشاهدة الأخبار كثيراً، واختيار القراءة وصيد السمك وغيرهما من الهوايات بديلاً من ذلك، على رغم أنه هو نفسه مَن عاصر «انتفاضة الكرامة» في تسعينيات القرن الماضي، والتي على إثرها أطلق ما سمّاه «المشروع الإصلاحي للعملية السياسية» عام 2001، من خلال ميثاق العمل الوطني، ثمّ انقلابه عليه سريعاً بإصدار دستور 2002، والمعروف «بدستور المِنحة». إذاً، ما الذي يفهمه ملك البحرين بعد أحد عشر عاماً من حراك شعبي لم تنتهِ فصوله بعد؟ قد نجد بعض الإجابات في مرافعة الأمين العام لـ«جمعية الوفاق» المُعارِضة، المعتقَل الشيخ علي سلمان، وبالتحديد في الفصل الخامس المعنوَن «المُناصحة»، والذي سرد فيه الشيخ سلمان كواليس لقاءاته مع الملك، ومحاولته «إفهامه» ونُصحه بضرورة مناقشة ملفّات التأزيم السياسي في البلاد، كالتجنيس السياسي والتمييز واحتكار السلطة والثروة وبالتأكيد الأزمة الدستورية، ليردّ الملك عليه بالقول: «إن شاء الله يا علي كل ما تريد أن يكون سيكون». لكنّ الشيخ سلمان يَخلص إلى أن «الحُكم في البحرين يرفض مبدأ الحوار السياسي المُفضي إلى حلّ الخلافات، وإن ادّعى خلاف ذلك. وتثبت الوقائع التاريخية والتجربة العملية أن الحُكم حين يُقبل على حوار سياسي، يكون مدفوعاً إليه بفعل تأثيرات خارجية، وعند زوال أثرِها، يتراجع عن الحوار بخلق أسباب لذلك التراجع، ويتنصّل من كلّ النتائج التي تمّ التوصل إليها، ما يشير إلى أن الدخول في حوار سياسي لا يُشكّل مبدأً لديه، وإنّما ضرورة اقتضتها الظروف الراهنة، فإن تغيّرت؛ عاد إلى تسلّطه في اتّخاذ القرار، وحوّل الحوار إلى ممارسة فاقدة للمضامين». ويضيف أن «هذا الرفض نابع من نظرته إلى طبيعة الحكم، وسيطرة مفهوم الفتح عليه، وهو مفهوم يقوم على أن الفاتح الذي يتمكّن من الاستيلاء على البلاد بالقوة، له حقّ الهيمنة على مقادير هذا البلد وثرواته وناسه، وليس للناس أن يطالبوا بالعدالة والمساواة، وليس لهم أن يجعلوا أنفسهم متساوين مع رجال الحكم، ويطالبوا بحوارٍ متّزنٍ تتساوى فيه الأطراف».
الحُكم في البحرين يرفض مبدأ الحوار السياسي المُفضي إلى حلّ الخلافات، وإن ادّعى خلاف ذلك


جزءٌ من تلك التأثيرات الخارجية التي تحدّث عنها الشيخ سلمان، يتمثّل في هيمنة بريطانيا على القرار السياسي في البحرين بصفتها مستعمِراً بالباطن حتى يومنا هذا، وتوفيرها الغطاء والدعم السياسييْن لنظام الحُكم، كما تُرجم مثلاً في إعطاء الضوء الأخضر لاعتقال الشيخ سلمان أواخر عام 2014، بعد رفضه المشاركة في الانتخابات، باعتبارها توقيعاً على «صكّ العبودية»، على حدّ ما وصفها به في خطاب في أحد التجمّعات الشعبية الكبرى للمعارضة. أمّا الجزء المكمّل لهذه الهيمنة، فيكمن في تسخير الخبرات والاستشارات الأمنية والاستخباراتية البريطانية للعناصر الأمنيين في البحرين، وتدريبهم على تبييض انتهاكات حقوق الإنسان وإخفاء معالم جرائمهم، عبر التعاون بين الأكاديمية الملَكية للشرطة البحرينية و«جامعة هيدرسفيلد» البريطانية، بحسب ما أكّدت وسائل إعلامية بريطانية، وأحزاب وأعضاء في مجلس العموم البريطاني، فضلاً عن إنشاء أكبر قاعدة بحرية عسكرية بريطانية في الشرق الأوسط من البوّابة البحرينية، وتحمّل حكومة المنامة جزءاً كبيراً من كُلفتها المالية (كيف لا والملك وقف مكرّراً سؤال والده للمستعمر: «من طلب منكم الرحيل»؟) ولم تقف الأمور عند هذا الحدّ، بل إن توقيع اتفاقية التطبيع مع الكيان الصهيوني في واشنطن منتصف أيلول 2020، فتح الباب أمام العديد من الاتفاقيات الأخرى، وآخرها الاتفاقية الأمنية والعسكرية بعد زيارة وزير حرب الكيان، بني غانتس، الأخيرة للمنامة، والتي سيكون انعكاسها الأمني على الداخل البحريني عبر التعاون مع جهاز «الشاباك»، وانعكاسها الخارجيّ عبر الاستعانة بجهاز «الموساد» لملاحقة المُعارضين.
هكذا «يفهم» ملك البحرين إدارة البلاد والتعامل مع الأزمات السياسية، من دون الإقرار بوجود استحقاقات سياسية ومطالب شعبية لا تزال قائمة، وبأن هناك شعباً يُدرك تماماً أن هذا الملك «لم يفهمه» يوماً، ولو كان كذلك، لما تحصّن بمَن سمّاهم «أصدقاءه» الذين يبدو أنه «يفهمهم» أكثر ممّا «يفهم» شعبه.
* صحافي بحريني