كان من الممكنِ أن تجري الأمور في غير الاتّجاه الذي تمخّض عنه ذلك اليومُ الطويل: 14 شباط 2011. في ذلك اليوم، ومع طلوع فجْره الصادق؛ خرج القيادي المحكوم بالمؤبّد، عبدالوهّاب حسين، إلى الشارع العام من بلدته نويدرات، بعد أنْ أَمّ الصلاة في مسجد البلدة، وخلْفه ثلّةٌ من الأنصار. افتَتح هذا المشهدُ البداية غير المتوقّعة ليومٍ محفوف بالتمنّيات وبسواتر لا تُحصى من الهواجس. سرى الغضبُ آنذاك مثلَ توهُّجٍ بنفسجي أطلّ من شبّاك قديم. خرج المواطنون تلبيةً لدعوة الغضب الشعبي، واعتصموا على تخوم المناطق والشوارع العامة. وفّر لهم الالتزامُ بمانفيستو «الربيع العربي» (السلمية، الخروج الجماعي المتزامن، إرهاق القمع وإخراس السلاح)، القدرةَ على إنهاء النهار بنجاح باهر، إلّا أن انتساب 14 شباط إلى روزنامة «الربيع» ظلّ يراوح مكانه، حيث لم يتسنّ التوفّر على الشرط الثوري الحاسم، وفق النموذج المصري، أي الاعتصام المركزي في مكان مفتوح، وله رمزيّته العمومية، على رغم أنّ الأنظار كانت تتوجّه إلى المكان الموعود: دوّار اللؤلؤة.

انتهى يوم الغضب من غير اهتزاز مدوّ، وظلّت الساحات تنتظر شيئاً غير معلوم، يبدّد الحذر المعلّق في الهواء. بعد الساعة السابعة والنصف مساءً، كان علي عبد الهادي مشيمع (1989 - 2011) يتناولُ عشاءه الأخير مع أسرته في بلدة الدّيه، القريبة من الدوّار الشهير. خرج من المنزل، ثمّ عادَ بعد وقت قصير، وإنّما في حال مختلفة. كان يترنّح في اتّجاهات شتّى، على منوالِ عقارب ساعة مغدورة. فَتح باب المنزل، وتقيّأ كلّ شيء، وخرّ على الأرض مضرّجاً بالدماء الغزيرة. كانت الأمُّ تأمَل أن تُشبه غيبوبة عليّ غيابه القسري، وهو في سنّ السادسة عشرة، حيث قضى في الاعتقال السياسي عشرين يوماً. كما لم تُمانع الوالدة، وهي تصارع مخاوف شتّى، أنْ تتسلّح بصبر أكبر، وتَقبل التفاوض على غفْوة «أربعة أشهر»، حيث قضى عليٌّ مدّة اعتقال آخر في عام 2009. لكن غزارة الدماء الطّرية، وجسده الممزّق برصاص «الشّوزن»، أشْعرا الأمّ بأنها أمام مشهد آخر. نبضاتُ عليّ تتراخى بين مهد ولحد، وكأنها لم تَعُد تطيق لعبة الحياة المكرّرة: في صعودها ونزولها. رحلَ عليّ في مساء ذلك اليوم، وتحوّل جثمانه المثقوب إلى راية جديدة في الثورة التي انفجرت للتّو، وسرعان ما وجّه الجثمانُ وجهةَ الأحداث والتحوّلات. تجمَّع المواطنون في مستشفى السلمانية، وظهرت والدته من بين الغضب المدوّي، وصدحتْ بالشعار القاطع الذي سيصبح الأيقونةَ الأثيرةَ للثورة: «يسقط حمد».
يتوافد الناس حول الفتى المسجّى في المغتسل. يعيدون لملمة الحدث الجلل، ويقرّرون إقامة تشييع استثنائي. يشقّون الطريق، بجولة أو اثنتَين، نحو دوّار اللؤلؤة، غير مبالين بفوّهات القتل التي تتربّصُ داخل الدروع وخلف الحواجز الجبانة. يحتشد الناس وراء الشهيد. يتلاقون مثل طوفانٍ بدأ لا ليهدأ، ليتدارسوا على وقْع هتاف «بالروح بالدم نفديك يا شهيد»، الظروف الملائمة لإنتاج الثورة المحميّة بدماء شهيد الثورة الأوّل. ختموا مراسم الدفن بالشموع، وتوّجوا العهد والوعد بشعارِ «إسقاط النظام». وفي وقت أسرع من تلاقي الجموع، ترعرعت حامية الثورة في كنفِ أمّ عليّ ووالده اللذين رفضا المساومة على القصاص العادل، وأسقطا التعزية الباردة التي وجّهها ملك البلاد إليهما. أزاحا الستار في زفاف الشهيد عن مواليد جُدد، يستهزئون بالتوحّش المتخثّر في عروق المرتزقة.
لم يَعُد، بَعدك يا عليّ، من طُرق سانحة للمناورات وخُطط الاحتواء، وليس من مراتع ها هنا لتهدئة مؤقتة أو تفاوضٍ خادع أو تكرار لأخطاء التاريخ غير المغفورة. ثمّة منطق سياسي مِن تُرابكَ السخيّ يشحذ ضدّ التجريب واختبار الحلول على حساب الدماء. فهذا الفتى البحرانيّ أعاد درس البوعزيزي في التفرقة بين الانتحار والاحتجاج، بين أنْ تكون حرّاً رغم القيود والسّجان، وبين أن تقبل الإذعان والمسالمة مع «استراتيجيات» مصافحة القتَلة والمجرمين. كنتَ عيناً من جمْر، وكتِفاً من نار، ورأتْك الثورة، ولا زالت، عصارةَ هذا الوطن وكبريت كبريائه، ولهذا لا تُنسى، ولا تضرُّك السنون.