ونحنُ فخرُ أُوالٍ في حضارتها ونحن أعلى بني عُربانها نَسَبَا

هذا البيت للمرحوم الصديق، الشاعر البحريني غازي الحداد، ألقاه من على منصّة دوار اللؤلؤة في شباط 2011. وهو يندرج ضمن اشتغالات الحداد الشعرية لتأصيل الهوية البحرينية، كما يأتي في سياق ردّ الهجوم الذي كانت تتعرّض له الهوية، والخُطط المدروسة لإضعاف الاعتزاز الداخلي بِمَن نحن. «الهوية الضائعة» كانت العبارة التي استخدمْتها تحت صورتي عام 2007، حين أنشأت حسابي على موقع «فيسبوك»، وهي موجودة إلى اليوم. كذلك عبارة «من غريبم»، وترجمتها من الفارسية تعني «أنا غريب»، وقد لازمتني في تطبيق المحادثة الفورية «واتسآب» منذ بدأت استخدامه عام 2009.
كانت فكرة الهوية ودورها في عملية الصراع في البحرين تُلازمني منذ انتفاضة تسعينيات القرن الماضي. وعلى رغم تعدُّد النظريات حول أسباب تجدُّد الانتفاضات في البحرين كلّ عشر سنين، إلّا أن نظرية «صراع الهويات» كانت هي الأقرب إلى عقلي، عند محاولة فهم الصراع السياسي في وطني البحرين. على أنني لم أتخيّل أن تكون الهوية هي السبب الذي أُعتقل وأعذَّب به، أو السلاح الذي تستخدمه السلطة في عقابي عندما لا تستطيع أن تطاولني. في غرف التعذيب، كان الجلّاد يصرخ في وجهي: «أنا منذ التسعينيات كنت أريد أن أشرب من دمكم، ولكن الضابط لا يقبل، والشيخ فوق الضابط لا يقبل». ففي الوقت الذي لعبت فيه الهوية دوراً في تشكّل وعيي النضالي، كانت فكرة الهوية نفسها تُشكّلُ وحشية الجلّاد، وتُقنعه أن بانتهاك إنسانيّتي مقبول، طالما أنا في «موقع الآخر»، ذلك الآخر الذي لا ينتمي إلى «هوية الجلّاد» نفسها.
لم يكن غريباً أن تحصل هذه القصة في شهر رمضان، حيث كان يخبرنا الجلّاد في فترات راحته بين جلسات التعذيب أنه ذاهب للصلاة وسيعود لإكمال مهمته، أي مهمّة الانتصار لهويّته بالتعذيب. وعلى رغم أهمية المال والنفوذ في كلّ العملية الأمنية والسياسية في البحرين، إلّا أنني أعتقد أنهما عاملان مساعِدان أو رافعان للعامل الأساس، والذي أعتقد أنه «هويّته ضدّ هويّتي». ينصبُّ اهتمام مَن هم في السلطة على إلغاء الهويّات الأخرى في كلّ تجلّياتها، مع الإبقاء على هوية القبيلة؛ فكل عادات الشعب وتقاليده، احتفالاته ومهرجاناته، لهجاته وكلماته، هي كلّها على الهامش، قبالة عادات «القبيلة المنتصرة» وتقاليدها ولهجتها في صراعها مع الهويّات القديمة في البلد.
كذلك، يوم استطعت أن أنفذ بجسدي من البحرين، والوصول إلى بلد آخر أحظى فيه بالأمان بعيداً عن أهلي، كانت الهوية هي السلاح الذي استخدمتْه السلطة ضدّي، فقد تمّ إلغاء جنسيّتي بقرار من القبيلة. ومن خلال هذا الإلغاء، كانت السلطة تريد أن تعزّز فكرة أن «الهوية» هي مِلكنا، نهَبها مَن نشاء وننزعها مِمَّن نشاء، وهي هنا تريد أن تقنع نفسها بأن بمقدورها التحكّم في صيرورة هوية البلد، وإعادة صياغتها بالشكل الذي يتيح لها ممارسات بلا حدود ولا محاسبة. على أن إسقاط جنسيتي قبل ستّ سنوات، لم تكن العقوبة فيه فردية؛ فطبقاً للقانون في البحرين، فإن زوجتي لا تستطيع منح جنسيّتها لأبنائي حتى ولو كانت بحرينية، لذلك فمن وُلد لي بعد إسقاط الجنسية كان من فئة البدون. ولعلّه من أصعب الأمور أن تجيب على سؤال يأتيك من أطفالك: لماذا حسن لا يستطيع السفر إلى أيّ مكان؟ كيف تُفهم أطفالاً لم يبلغوا العشر سنوات تعقيدات الهوية، وأن هذا الجديد في العائلة لن تكون هويّته كما هويّتكم؟ كيف تقنعهم بأن ما حدث لم يكن جريمة الأب في حق أبنائه، وأنها جريمة نظام أراد أن يلغي هوية عائلة كاملة، محاوِلاً انتزاعها من تكوينها الثقافي، لأنه اعتقد أنه قادر على ذلك؟ ثمّ كيف أُقنعهم بأن يستمرّوا في فهم واستقطاب هويّتهم الأصلية، في الوقت الذي يرون فيه أن هذه الهوية «الجميلة» كانت سبباً في انتقالهم إلى بلد آخر، وفي أن يكون لهم أخ لا يحمل أيّة هوية «جنسية»؟
في أول ردّ فعل لي حين تسلّمت خبر إسقاط الجنسية، قلت: «عندما نمْت ليلة البارحة كنت بحرينياً، واستيقظت كبحريني، وسأنام كبحريني». هذه العبارة ليست محاولة مني للدفاع عن هويّتي أمام لائحة اتهام، وهي ليست محاولة منّي لإقناع نفسي بعروبتي وبحرينيّتي، كما لم تخرج لأن شكّاً ما تسلّل إلى نفسي حول «من أكون». لا، كانت أشبه بالعفوية لتُخبر «الآخر» أن هذا القرار لا يعنيني في شيء. فأنا كما أنا، لم يتغير أيّ شيء بي، أنا ذلك الذي استغرق في فهم نفسه انطلاقاً من هويّته، وعرف بحرينيّته كهوية يفتخر بها.
لذلك، ونحن في أجواء الذكرى الحادية عشرة لانتفاضة 14 شباط، فإن تغليب مسار الهويات المتصارعة عوضاً عن الهويات المتصالحة، لن يفضي إلى حلّ المشكل السياسي في البحرين، وستستمرّ الأزمات تظهر بين اللحظة والأخرى، ولن تفيد كلّ الحلول الترقيعية أو التجميلية. عندما نعترف بحق الآخر في الوجود، وأن يعبّر عن نفسه بالطريقة التي يراها، وأن نحترمه ونعطيه تمثيله الذي يستحقّه، عندما تكون هويّتي وهويّته جزءاً من تشكيل الهوية الجامعة للبحرين... عند ذاك، بإمكاننا القول إن البحرين تسير في الاتجاه الصحيح، وإنها تطير بجناحين.

* بحريني مدافع عن حقوق الإنسان