في أوّل لقاء من نوعه يجمع بين مسؤولين حكوميين سوريين (غير أمنيين) وآخرين أتراك، منذ انقطاع العلاقات بين البلدين قبل أكثر من 10 أعوام، تستعدّ العاصمة العراقية بغداد لاحتضان لقاء ثلاثي (سوري – عراقي – تركي)، للتوافُق على آلية واضحة وملزمة لتقاسم مياه نهرَي الفرات ودجلة، بعد سنوات من التلاعب التركي بكمّيات المياه المرسَلة، على الرغم من وجود اتفاقية سابقة بهذا الخصوص. اللقاء الذي أعلن عنه وزير الموارد المائية العراقي، مهدي رشيد الحمداني، خلال زيارته سوريا أخيراً، حيث أجرى لقاءات عدّة مع مسؤولين في الحكومة من بينهم رئيس الوزراء حسين عرنوس ووزير الخارجية فيصل المقداد، يأتي لإيجاد مخرج لمماطلة أنقرة، التي أصرّت على وجود الطرف السوري في المباحثات. الوزير العراقي، الذي كان أجرى خلال العامين الماضيين جولات مكّوكية بين تركيا وسوريا، قال في تصريحات صحافية، إن دمشق أبلغته قبولها الجلوس على طاولة المفاوضات مع الجانب التركي، أيّاً كان التمثيل الذي يتطلّبه هذا الحضور، مرجّحاً أن تشارك الوفود «على المستوى الوزاري».وتأتي المساعي العراقي هذه، بعد أعوام عدّة من التلاعب التركي بكمّيات المياه المرسَلة إلى سوريا، الأمر الذي أدّى إلى نقص المياه المارّة إلى العراق أيضاً، ما تسبّب - من ضمن جملة عوامل - بموجة جفاف كبيرة، قدّرت منظّمات دولية عدّة أنها أضرّت بنحو 12 مليون شخص، بالإضافة إلى الأضرار الكبيرة في القطاع الزراعي، والثروة الحيوانية، وحتى التوزّع الديموغرافي، بسبب حركات النزوح التي تسبّبت بها أزمة الجفاف. وتُعتبر قضية نهرَي الفرات ودجلة إحدى القضايا التي تستثمرها أنقرة بين وقت وآخر، كورقة ضغط سياسية، بسبب عدم اعترافها بأن هذين النهرين دوليّان، واعتبارها إيّاهما «نهرين عابرين للحدود»، في محاولة للالتفاف على القوانين الدولية التي تنظّم عملية تقاسم الموارد المائية. وتحتكر تركيا أكبر قدر ممكن من مياه النهر، عبر إقامة سدود ومشاريع مائية أدّت بمجملها إلى أزمات جفاف متتالية في كلّ من سوريا، وبصورة أقسى العراق، خصوصاً أن التلاعب التركي تزامَن مع تغيّرات مناخية وارتفاع متتالٍ في درجات الحرارة، الأمر الذي ضاعف من آثار هذا التلاعب، وأدّى إلى انخفاض كبير، ضمن فترات زمنية متواترة، في منسوب نهرَي دجلة والفرات، وصل معدّله الصيف الماضي إلى نحو 5 أمتار.
ومرّت قضية مياه النهرَين بمنعرجات عدّة، قبل أن تتوصّل سوريا إلى اتفاقية مع الجانب التركي عام 1987، تقضي بأن تسمح تركيا بمرور ما لا يقلّ عن 500 متر مكعب في الثانية، على أن تمرِّر سوريا ما لا يقلّ عن 58% من هذه الكمية إلى العراق، بموجب اتفاق لاحق تمّ توقيعه، وهو ما جرى العمل به فعلياً، وسط بعض التجاوزات الطفيفة التركية لأسباب تتعلّق بنقص مياه النهر صيفاً، حتى عام 2011. لكن عندما اندلعت الأزمة السورية، وانقطعت العلاقات بين دمشق وأنقرة، بدأت تركيا التلاعب بشكل كبير بكمّيات المياه، عن طريق خفض الكمّيات المرسَلة صيفاً إلى مستويات منخفضة جدّاً، وزيادة الكمّيات المرسَلة بشكل فجائي شتاءً، الأمر الذي شكّل تهديداً كبيراً على مجرى النهر والمنشآت المائية المُقامة عليه.
تُعتبر قضية نهرَي دجلة والفرات إحدى القضايا التي تستثمرها أنقرة بين وقت وآخر كورقة ضغط سياسية


وخلال العامين الماضيين، كثّفت كلٌّ من بغداد ودمشق اتّصالاتهما التي تكلّلت باتفاقية مشتركة بين البلدَين لـ«توحيد المواقف» والتعاون المشترك في جميع التفاصيل المتعلّقة بمياه النهرَين، اللذين أقامت عليهما تركيا سلسلة من السدود من دون الرجوع إلى سوريا والعراق، لتتولّى بغداد مسؤولية التواصل مع الجانب التركي. وفي هذا السياق، ذكرت مصادر عراقية أن أنقرة حاولت خلال المباحثات الالتفاف على مسألة التوصّل إلى اتفاق واضح، عن طريق التعذّر بعدم وجود ممثّل عن سوريا في هذه المفاوضات، الأمر الذي يفسّر زيارة الوزير العراقي لدمشق، وعقده لقاء مع وزير الخارجية السوري، الذي أبلغه قبول بلاده المشاركة، ما يعطي، وفق الوزير العراقي، دفعة قوية للمفاوضات. وفي وقت لم يحدَّد فيه بعد موعد اللقاء الثلاثي، يستعدّ العراق لإطلاق النسخة الثانية من «مؤتمر بغداد للمياه» في الخامس والسادس من شهر آذار المقبل، والذي ستشارك فيه سوريا بعد تلقّيها دعوة رسمية.
ويتزامن الانفتاح التركي على إيجاد صيغة توافقية مع العراق وسوريا، مع بروز توجّهات أنقرة الجديدة لاستيراد الغاز الطبيعي من العراق، والتي يبدو أنها دفعت الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إلى التحرّك بشكل جدّي لحلحلة الملفّ، عن طريق تعيين ممثّل خاص عنه في المفاوضات. ونقلت وسائل إعلام تركية عن إردوغان تأكيده طلب استيراد الغاز الطبيعي من رئيس «إقليم كردستان»، نيجيرفان بارزاني، الذي أبلغه أنه سيفعل ما بوسعه وسيبحث الموضوع مع الحكومة المركزية في بغداد.