تونس | أكّدت هيئة الدفاع في ملفّ القياديَّين اليساريَّين، شكري بلعيد ومحمد البراهمي، أنّ النيابة العمومية فتحت تحقيقاً أوكلته إلى «فرقة الحرس الوطني»، في شبهات تخابر وتجسّس ضدّ رئيس حركة «النهضة»، راشد الغنوشي، ونجله معاذ، بناءً على معطيات جمعتها الهيئة وقدّمتها للرأي العام في ندوة صحافية يوم الأربعاء الماضي. وجاء ذلك بعد تسع سنوات تميّعت فيها الحقيقة، وتفرَّق دم الضحيّتَين بين الدوائر القضائية، فيما لا يبدو محسوماً أنّ الحقيقة والعدالة هما اللتان ستستفيدان من الكباش المتصاعد اليوم.لم يكن بلعيد، أكثر القيادات اليسارية شعبية وجماهيرية، والذي اغتيل في 6 شباط 2013، في أوّل حادثة اغتيال سياسي في البلاد، ممّن نجحت فلول نظام زين العابدين بن علي أو الأذرع الإلكترونية التابعة لـ«النهضة» في تشويه صورته والتأليب عليه، بل شكّلت تحرّكاته المناصرة للمطالب الشعبية مناسبة لتفنيد كلّ ما يروَّج عنه، خصوصاً أنه اتّسم بقدرته على الإقناع، والتي جعلته دائماً يتفوّق على خصومه «النهضويين» في النزالات التلفزيونية. وقد نجح الراحل في ما فشلت فيه طوائف اليسار لعقود، وهو توحيد اليساريين بمختلف مرجعياتهم تحت راية ما أسماها «الجبهة الشعبية».
صعّدت «النهضة»، إثرذاك، من حدّة عدائها لبلعيد، حيث طاولته خطب التكفير والتهديد من قِبَل قيادات فيها، ثمّ انتقل الأمر إلى التحريض عليه في المساجد والخيم الدعوية التي انتشرت آنذاك في البلاد، وشكّلت الشرارة الأولى لما صدّرته تونس من «دواعش» نحو ليبيا وسوريا. انتهى هذا المسلسل باغتيال شكري برصاصات أمام بيته في إحدى ضواحي العاصمة، فيما لم تسلم حتى جنازته الحاشدة والتاريخية من القمع. وبانطلاق المسار القضائي البطيء جدّاً بخصوص قضيته، انطلق مسار إعلامي موازٍ بهدف تضييع الحقيقة؛ فتارة تصرّح قيادات «نهضوية» عن فرضية اغتياله على أيدي مخابرات أجنبية، وتارة أخرى تنشغل وسائل إعلام تابعة للحركة بفرضية أنّ أرملة الشهيد ورفاقه هم من خطّطوا لتصفيته، في حين لم يكن أمام عائلة بلعيد ورفاقه إلّا انتظار نهاية التحقيق، عساها تكشف المتورّطين في الحادثة.
ولكن الانتظار لم يَدُم طويلاً، إذ سرعان ما اغتيل قيادي يساري ثانٍ بالطريقة نفسها، وهو محمد البراهمي، القيادي القومي في «الجبهة الشعبية»، والذي كان نائباً في البرلمان، ويتمتّع بشعبية مشهودة، وسُجّل له دور متقدّم في مناهضة «الترويكا» الحاكمة. وإذا كانت «النهضة» تتحمّل مسؤولية معنوية في اغتيال بلعيد، نظراً للتحريض والتكفير اللذين قادتهما ضدّه، فإنها تتحمّل مسؤولية قانونية مباشرة في اغتيال البراهمي، بالنظر إلى ترؤّس قيادييها رئاسة الحكومة ووزارة الداخلية آنذاك، فضلاً عن تسرّب وثائق من «الداخلية» تُفيد بتحذير مخابرات أجنبية، الأمن التونسي، من وقوع اغتيال وشيك لقيادي يساري، وهو ما يعني وجود شبهة إهمال في الحدّ الأدنى.
الخصومة ما بين سعيد و«النهضة» تجعل من الصعب الوثوق بالمسار القضائي الحالي


ومع لمْس أهالي الضحيتَين ورفاقهما كمّ المخاتلات القضائية التي وقعت لدفن الملفَّين، تكوّنت هيئة الدفاع بخصوصهما، والتفّ حولها محامون كثر. ومن بين ما كشفته هذه الهيئة هو أن وزارة الداخلية حجزت وقائق مفيدة للعدالة في «غرفة سوداء»، على أمل إتلافها. كما أظهر استجواب الشهود في المحكمة تورّط مقرّبين من «النهضة» في جمع معلومات حول بلعيد والبراهمي ومسار تحرّكهما. لكن وكيل النيابة المتعهّد، بشير العكرمي، الذي تتّهمه الهيئة بأنه ذراع لوزير العدل الأسبق نائب رئيس حركة «النهضة»، نور الدين البحيري، تجاهَل كلّ تلك المعطيات، ولم يدعُ المتورّطين إلى التحقيق. وفي أعقاب اندلاع الخلاف الشهير بين العكرمي ورئيس محكمة التعقيب، الطيب راشد، تحوّلت تلك الاتهامات من مجرّد ادعاءات إلى حقائق بتّت فيها «تفقدية القضاة»، ثمّ «مجلسهم الأعلى»، على رغم الضغط الذي مارسته «النهضة» وحلفاؤها، لينتهي الأمر بإحالة العكرمي إلى القضاء وتجريده من رتبته.
عادت الهيئة الأربعاء الماضي، مسنودةً بعميد المحامين، لتُقدّم ما يفيد بتورّط راشد الغنوشي في الواقعة، وضلوع أطراف قطرية في التنصّت على سياسيّين وإعلاميين وقضاة تونسيين. وعلى رغم ما يراه البعض في ذلك من فائدة متمثّلة في سقوط حصانة «النهضويين» وقبولهم مكرهين المثول أمام العدالة للتحقيق في ما نُسب إليهم، حتى وإن قُضي ببراءتهم فيما بعد، إلّا أن الخصومة ما بين الرئيس قيس سعيد، و«النهضة»، تجعل من الصعب الوثوق بالمسار القضائي الحالي، وتحيط بالشكوك الكثير من الإجراءات التي اتُّخذت على هذا المستوى، منذ إعلان سعيد إجراءاته الاستثنائية في 25 تموز الماضي، خصوصاً في ظلّ الارتجال والتعسّف المهيمنَين على قرارات الرئيس وخطواته.