نابلس | في رابعة نهار يوم الثلاثاء الماضي، نفّذت إسرائيل عملية اغتيال كبيرة لم تشهد الضفة الغربية المحتلّة مثلها منذ 13 عاماً، أدت إلى استشهاد المطارَدين أدهم مبروكة ومحمد الدخيل ومساعدهما أشرف المبسلط، في محاولة لتوجيه ضربة قاسمة إلى خلية تتبع "كتائب شهداء الأقصى" في نابلس. "الضربة الثلاثية" رفعت منسوب التصعيد الميداني، ليمتدّ من نابلس إلى جنين وشمال الضفة مروراً بضواحي القدس، ووصولاً إلى الحدود الشرقية في قطاع غزة، وسط توقّعات إسرائيلية وفلسطينية باستمرار التصعيد في الأيام المقبلة. حدث ما كان متوقّعاً إذاً، من نيّة العدو تنفيذ عملية خاطفة عبر قوّة خاصة في نابلس، وفق ما أشارت إليه "الأخبار" في أعداد سابقة. اختار "الشاباك" حيّ المخفية لتنفيذ الاغتيال، على رغم معرفته المسبقة بتحصّن المطارَدين داخل البلدة القديمة في نابلس، وهو ما استهدف - على الأرجح - تقليل الخسائر ومنْع المقاومين من الردّ على القوّة الخاصة، على اعتبار أن هؤلاء يشعرون بأن البلدة القديمة تمثّل قلعة محصّنة، كونهم يعرفون دهاليزها وأزقّتها الضيّقة وطبيعتها الجغرافية، إضافة إلى كوْن المطارَدين "أبناء البلد"، ويمتلكون حاضنة شعبية قوية. بعد الظهيرة، هو التوقيت الذي اختاره العدو لتنفيذ عملية الاغتيال، في شارعٍ هادئ وقليل الحركة من حيّ المخفية في مدينة نابلس وخارج البلدة القديمة. كانت مركبة المقاومين الثلاثة من نوع "سيات" تشقّ طريقها هناك، وفي المقابل كانت قوّة "يمام" الخاصة الإسرائيلية تتقدّم متخفّية في مركبتَين، الأولى مركبة نقل عمومي صفراء اللون، وتتبعها مركبة نقل شخصية من طراز "كادي" رمادية اللون، بسعة 6 ركاب، وبهذا فإن فريق الاغتيال ضمّ على الأقلّ 13 جندياً إسرائيلياً. عندما التقت مركبة المقاومين بمركبة النقل العمومي، اعترضت الأخيرة الأولى في عرض الشارع، وعلى الفور ترجّل فريق الاغتيال وأمطر المقاومين بصليات رصاص متتالية، فاستشهد أدهم مبروكة ومحمد الدخيل بعدما اخترقت عشرات الرصاصات الزجاج الأمامي للمركبة، فقتلت السائق والراكب بجانبه، ثمّ حاول الشهيد أشرف المبسلط فتح الباب الجانبي الخلفي، لكن الجنود عاجلوه بإطلاق النار عليه، وقتلوه.
يُنظر إلى عملية الاغتيال تلك على أنها سريعة وبسيطة، لكن الواقع يثبت أنها معقّدة؛ إذ إن فريق الاغتيال الأول كان مدعوماً مباشرة بفريق الاغتيال الثاني في مركبة "كادي" مدنية، كما أن قوّة تضم عدداً من الآليات العسكرية الرسمية لجيش الاحتلال كانت تتمركز قرب قرية تِل على مسافة قريبة من موقع الاغتيال، وتتجهّز للاقتحام كقوّة إسناد في حال تعطّل الخطة أو حدوث مفاجآت غير محسوبة، مثل اندلاع مواجهات شعبية بالحجارة أو ردّ مقاومين آخرين لاحقاً. وبينما وثّقت مقاطع مُصوّرة جنود العدو وهم يتفقّدون الشهداء، ويستولون على قطعتَي سلاح من المركبة، ثمّ انسحابهم نحو قوة الإسناد، سُجّل بعد دقائق من عملية الاغتيال، حضور مركبة أجرة إسرائيلية إلى مدخل مدينة نابلس، لينهال عليها الشبان بالحجارة ويهاجموها في شارع القدس قرب حاجز حوارة، وينجو المستوطن الذي كان يستقلّها بأعجوبة. وعلى رغم المطاردة الإسرائيلية التي سبقت العملية، استطاع أدهم مبروكة ومحمد الدخيل الوصول إلى مدينة جنين ومخيمها قبل يومين من اغتيالهما، والتقيا بأصدقاء لهما، والتقطا صوراً تذكارية بجانب ضريح الشهيد حمزة أبو الهيجا من "كتائب القسام"، وصوراً أخرى بجانب النصب التذكاري للشهيد جميل العموري من "سرايا القدس"، وموقع تذكاري ثالث لشهداء ارتقوا على أرض جنين، ثمّ عادا إلى مسقط رأسهما في مدينة نابلس.
جبهة جنين تغلي تحت الرماد مع القرار الإسرائيلي بهدم منازل منفّذي عملية «حومش»


تقول مصادر، لـ"الأخبار"، إن طريقة الاغتيال ألهبت الشارع الفلسطيني، بعدما أحدثت صدمة لديه كونها مفاجئة وقاسية، والأولى من نوعها منذ العام 2009 في نابلس، إذ إن آخر اغتيال مماثل وقع في البلدة القديمة في المدينة، واستهدف الشهداء: غسان أبو شرخ، عنان صبح، ورائد السركجي. وعلى رغم أن هكذا عمليات تنفّذها إسرائيل عادةً بحق المقاومين الذين قتلوا أو أصابوا إسرائيليين، إلّا أن هذه "الخلية النابلسية" لم تسفر عملياتها عن قتلى أو إصابات، لكن هناك أسباباً أخرى جعلتها تتصدّر قائمة المستهدَفين والمطلوبين للاغتيال، وأبرز تلك الأسباب: تميُّزها بعمليات إطلاق النار المتتالية باتجاه حواجز جيش العدو وآلياته، إضافة إلى تشكيلها حالة جديدة من "التنظيم المحلي المتميّز"، وإصرار المطارَدين فيها على عدم تسليم أنفسهم وتحدّي كلّ المكالمات الإسرائيلية المطالِبة إيّاهم وعائلاتهم بذلك. وكانت أعلنت الخلية عن انطلاقتها بشكل غير رسمي، من خلال بيان عسكري وعرض مسلّح إبان معركة "سيف القدس" في شهر أيار الماضي، وتركّزت نشاطاتها في البداية على إطلاق النار تجاه نقاط وأبراج عسكرية محيطة بمدينة نابلس، من بينها نقطة عسكرية إسرائيلية على جبل جرزيم، ثمّ امتدّت لتصل إلى حاجز حوارة.
ووثّقت الخلية بعض عملياتها بجرأة، حيث كان المقاومون يترجّلون من مركبة، ويطلقون النار باتجاه الهدف الإسرائيلي، ثمّ ينسحبون فوراً. وبحسب مصدر تحدّث إلى "الأخبار"، فإن مقاومين من الخلية نفسها أطلقوا النار تجاه جيش العدو عدّة مرّات خلال اقتحامات مدينة نابلس، لتُسجَّل أبرز هذه الاشتباكات في محيط البلدة القديمة ليلاً، وفي شارع عصيرة عصراً عند اعتقال قوة خاصة إسرائيلية لقائد الخلية، الأسير عبد الحكيم شاهين، قبل أشهر. من جهتها، تَذكر "القناة 12" العبرية أن التحقيقات الإسرائيلية كشفت أن عدد عناصر الخلية ثمانية، وأنهم خطّطوا لتنفيذ عمليات جديدة، واحدة منها في يوم اغتيال الشهداء الثلاثة. وقد نجا من عملية الاغتيال المطارَد إبراهيم النابلسي، حيث لم يكن موجوداً في مركبة "سيات"، ليَظهر ممتشقاً بندقيته في تشييع رفاقه الثلاثة، وتهتف الجماهير الغاضبة تحيةً له بـ:"يا نابلسي إحنا معك"، وهو ما علّقت عليه "القناة 12" بأن "النابلسي تحدّى الجيش الذي يبحث عنه بمشاركته في جنازة أصدقائه الثلاثة".
في يوم الاغتيال، شهدت الضفة الغربية عشرات عمليات إلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة تجاه مركبات المستوطنين، وارتفع عدد المواجهات على نقاط التماس، فيما شهد عدد من المناطق الفلسطينية مسيرات غاضبة مندّدة بالعملية. وامتدّ الغضب في اليوم التالي ليصل إلى حدود مخيم البريج وسط قطاع غزة، حيث اجتاز شبان السياج الحدودي، وأحرقوا شاحنة هندسية إسرائيلية خلف الحدود، وعادوا إلى القطاع بسلام. وشهدت ساعات ما بعد تشييع الشهداء 5 عمليات إطلاق نار على الأقلّ، استهدفت كلّاً من: حاجز الجلمة، قوّة إسرائيلية قرب قرية كفر قود، آلية إسرائيلية عند الجدار الفاصل قرب قرية العرقة. وفي اليوم التالي للاغتيال، أطلق مقاومون النار مرّتين باتجاه حاجز قلنديا العسكري ومستوطنة "كوخاف يعقوب" شمال القدس. ومع نجاة النابلسي من الاغتيال، وظهور عدد من أفراد الخلية الآخرين إلى جانبه بشكل علني، يبدو أن "الحساب لم يغلق كاملاً"، سواء من جانب العدو الإسرائيلي أو من المقاومين، إذ إن الميدان يشي باستمرار عمليات إطلاق النار الخاطفة ضدّ الإسرائيليين في نابلس ومحيطها على الأقلّ خلال الأيام المقبلة، كما أن جبهة جنين تغلي تحت الرماد مع القرار الإسرائيلي بهدم منازل منفّذي عملية "حومش" في بلدة السيلة الحارثية، حيث يتجهّز الشبان والمقاومون لصدّ عملية الاقتحام والهدم، فضلاً عن أن التسلسل التاريخي أثبت أن تراكمية الأحداث الساخنة تدفع دائماً باتجاه التصعيد، وتطرد الهدوء النسبي.