بنغازي | يشهد القطاع الصحّي في ليبيا تدهوراً خطيراً، في سياق حالة التآكل المستمرّة في المؤسّسات الحكومية منذ انتفاضة 2011، وما تلاها من اقتتال داخلي. وإلى جانب الفساد المستشري في القطاع، تنضمّ أزمات عديدة إضافية، لم يكن آخرها النقص الكبير في الكادرات الطبّية الكفوءة من أطباء وممرّضين، بسبب مغادرة الكثيرين منهم البلاد، على مدار أكثر من عشر سنوات. وتعيش ليبيا اليوم شحّاً حادّاً في الدواء، في ظلّ صراع قائم بين القطاعَين العام والخاص على هذه السلعة، بلا رادع قانوني. وكان «جهاز الإمداد الطبي» قد لعب دوراً مهمّاً في توفير المعدّات الطبية حتى سنوات خلت، ومَثّل المورّد الوحيد للأدوية، بما يقرب من 80% من أدوية المستشفيات الحكومية، إلّا أنّ هذا الدور تراجَع تدريجياً، لتتدنّى النسبة المذكورة إلى 20%، وتستحوذ الشركات الخاصة على النسبة الغالبة المتبقّية، بحسب ما يكشف مسؤول في وزارة الصحة، رفض الكشف عن اسمه، لـ«الأخبار». من جهته، يلفت المسؤول في صيدلية قسم الأورام في «مستشفى الأطفال في بنغازي»، محمد إبراهيم، إلى أن «تراجُع دور جهاز الإمداد الطبي كمورّد رئيس للأدوية أثّر سلباً وبشكل مأساوي على عمل المشفى»، موضحاً، في تصريح إلى «الأخبار»، أنّ «هذا التراجع تسبّب بعدم توفُّر جرعات طبّية ذات جودة عالية لعلاج أورام الأطفال، خصوصاً في ظلّ مقاطعة الأطبّاء لبعض الأدوية المستورَدة من الهند وتركيا ومصر والأردن، كونها لم تخضع للتحقيق والتحليل والمقارنات التي تُشرف عليها هيئة الرقابة على الأدوية». ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يتعدّاه إلى سرقات تشهدها مخازن المشافي الحكومية، لصالح السوق السوداء. إذ تُبيّن رجاء عبد الله، الصيدلانية في «مستشفى الجلاء للحوادث»، ثالث أكبر مشفى في بنغازي، أنّ «الفساد والإهمال وغياب كفاءة المسؤولين عن المخازن الطبية في المشافي الحكومية، كلّها عوامل ساهمت في ضياع واستنزاف المخزون الطبي الذي يُباع في السوق السوداء، فيما تعاني المشافي من نقص فادح».
يقتصر التأمين الطبي على فئات معيّنة من المجتمع تابعة لقطاعات حكومية


من جهته، يتّهم عضو «جهاز الإمداد الطبي»، وأحد مؤسسي شركة «الحكمة لتورية الأدوية»، محمد المجبري، «مسؤولين في وزارة الصحة بأنهم يجرون صفقات مع بعض الشركات الخاصة الكبيرة التي تملك حقوق وكالات عالمية، وتورّد وتبيع الأدوية الطبّية للحكومة بمكاسب تَفوق المُتوقّع، من دون التركيز على الجودة والتحقُّق من الرقابة الدوائية». وفي الاتّجاه نفسه، تلفت المحامية أسماء بوزيد إلى أنّ الفساد المستشري ساهم في تفريخ تلك الشركات والصيدليات، من دون الخضوع للإجراءات القانونية المرعيّة الإجراء لمزاولة المهنة. وتُضيف بوزيد، في تصريح إلى «الأخبار»، أنّ «سطوة مافيات غسيل الأموال تنعكس سلباً على استقرار إدارة مخازن الأدوية، في ظلّ تراجُع صلاحيات جهاز الإمداد الطبي، إضافة إلى القوّة الشرائية والتنافس القوي على سوق المنتجات والمعدّات الطبّية، وسوق المنتجات التجميلية الطبّية». كلّ ذلك كانت له انعكاساته البالغة على السكّان؛ إذ لجأت بعض المستشفيات إلى الطلب من المرضى توفير المستلزمات الطبّية على حسابهم، ومن السوق السوداء لعدم توفّرها في مخازن المستشفيات. وفي هذا السياق، يبيّن الصيدلي موسى اللافي، العامل في صيدلية «مستشفي الهواري العام»، أنّه «بعدما كانت صيدلية المشفى الرقم واحد على مستوى البلاد والمنطقة الشرقية، أصبحت شبه خالية من المستلزمات الطبّية منذ عام 2014».
إزاء ذلك، تتزايد المطالبات لوزارة الصحة بلعب دور أكبر في ضمان استيراد الأدوية ذات الجودة العالية، ومراقبة السوق الموازي بشكل يحدّ من انتشاره، وتسعير الأدوية على نحو يكفل وصولها إلى جميع المحتاجين، في ظلّ اقتصار التأمين الطبي على فئات معيّنة من المجتمع تابعة إلى قطاعات حكومية، وحرمان العاملين والمتقاعدين وذوي الدخل المحدود وذوي الاحتياجات الخاصة منه. وفيما امتنعت الوزارة عن الردّ على أسئلة «الأخبار» بهذا الخصوص، لا يبدو أن ثمّة أملاً بتغيُّر الوضع الحالي، في ظلّ استمرار الصراع السياسي الذي لا يفتأ يطحن المؤسسات الحكومية، ومن بينها قطاع الدواء. وكنموذج مما تَقدّم، فقد عطّل رئيس ديوان المحاسبة في الحكومة المؤقّتة، ومصرف ليبيا المركزي، توريد الأدوية المستعملة لعلاج الأورام لعام كامل، من تموز 2020 حتى تموز 2021، فيما أدّى الاقتتال في بنغازي تحديداً إلى إتلاف موجودات مخازن الأدوية الرئيسة، بنسب كبيرة.