إذا كانت «ديبلوماسية الشيكات» الشائعة خليجياً، امتيازاً سعودياً تاريخياً، يسير الآخرون خلفه بأرقام أقلّ، احتراماً للمملكة، فإن إخراج أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، دفتر شيكاته بالأرقام الأعلى خلال زيارته لواشنطن، يشير إلى انقلاب في الأدوار بدأ منذ زمن، غير أنه لم يظهر علناً إلّا الآن. فأحد العناوين التي يمكن وضعها لهذه الزيارة، هو أن قطر صارت علناً الحليف الأوّل لأميركا في المنطقة بعد إسرائيل، والحارس الأوّل لمصالحها، لا بسبب تصنيفها حليفاً رئيساً لأميركا خارج «الناتو»، وهو في حال قطر تحصيل حاصل، بل بسبب المسار الطويل الذي انتقلت فيه العلاقات السعودية - الأميركية إلى موقع التشكيك المتبادل، بسبب العداء الشعبي السعودي للولايات المتحدة، والذي صار يطفو على السطح أكثر في الآونة الأخيرة، ومن ثمّ اضطلاع قطر تدريجياً بالدور الذي كان منوطاً بالمملكة، ابتداءً من عام 1996، تاريخ بناء قاعدة العديد الأميركية في قطر، بعد سحب الجنود الأميركيين من السعودية، نتيجة فقدانهم الشعور بالأمان فيها.لم يكن معهوداً قبل الآن أن يُخرج أمير قطر دفتر شيكاته بهذه الصورة الاستعراضية، كما ظهر حين شهد مع الرئيس جو بايدن في البيت الأبيض صفقة ضخمة للخطوط القطرية المملوكة للدولة، مع شركة «بوينغ»، من خلال طلب الأولى شراء 50 طائرة عملاقة للشحن، وعدد مماثل من طائرات النقل من طراز «737 ماكس» - والذي كاد يدمّر الشركة بسبب عيوب مصنعية -، ليطير سهم «بوينغ» في البورصة بأسرع من الطائرة نفسها، مسجِّلاً ارتفاعاً بنسبة 5% في يوم واحد، حيث قُدّرت قيمة الصفقة بـ27 مليار دولار. أيضاً، سيستجيب الأمير لطلب أميركي بشحن الغاز المسال إلى أوروبا في حال غزو روسيا لأوكرانيا، بعد أن يعتذر من زبائن آخرين كانت قد ارتبطت دولته معهم بعقود حول الشحنات نفسها، وذلك حتى يُرضي بايدن الأوروبيين الذين لا يستطيعون الوقوف مع واشنطن في موقفها من هذا النزاع، من دون توفُّر بديل سريع للغاز الروسي. لكنّ ذاك الذي دفعه تميم «على الصندوق» في البيت الأبيض، هو جزء من ثمن الاستئجار الفعلي للجنود الأميركيين الذين يحمون نظامه مع معدّاتهم في قاعدة العديد. أمّا الثمن الحقيقي، فهو التخلّي عن السيادة القطرية تماماً، من خلال ترك حرّية التحرُّك للقوّات الأميركية لشنّ هجمات ضدّ أيّ دولة تريد، من دون أن تتحمّل الدوحة حتى الآن أيّ تبعات في المقابل، لكن من غير المضمون أن يظلّ الوضع على ما هو عليه دائماً، خاصة إذا ما شهدت المنطقة تَغيّرات كبرى. فهناك حتماً متضرّرون من السياسة القطرية، وقد يأتي يوم يَنشدون فيه ثمناً للضرر المذكور.
إخراج تميم دفتر شيكاته بالأرقام العالية في واشنطن يشير إلى انقلاب في الأدوار بين الدوحة والرياض


وفي مقابل السياق الذي وضع فيه حمد بن جاسم التصنيف الأميركي لقطر، معتبراً إيّاه «تأكيداً بأن سياسة بلدي تسير بثبات واضح في دعم الحق دون مجاملة، وفي نهج ثابت أضحى حقيقة راسخة لا تتبدّل»، قدّمه الخصوم الخليجيون كدليل «على أن الدوحة تُسيَّر عبر الروبورت الأميركي لتنفيذ برامج تخريبية في المنطقة العربية»، وأن «بايدن الخرفان يظنّ أنه يسحب بساط زعامة الأمّة من السعودية ويعطيها لقطر». فبايدن لم يمنح السعوديين والإماراتيين شرف الدعوة إلى البيت الأبيض، باعتبارهم من زُمرة غريمه دونالد ترامب الذي سينافسه على الأرجح مرّة ثانية على الرئاسة عام 2024. وهو يقاطع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، مقاطعة تامّة، فيما لم ينل ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، سوى مكالمة هاتفية مع وزير الدفاع، لويد أوستن، على رغم فداحة حدث قصف دبي وأبو ظبي بالصواريخ الباليستية والمسيّرات، ما يؤشّر إلى أن سفيره، يوسف العتيبة، الذي كان ذا نفوذ هائل في أميركا، وهندس التحالف بين ترامب وابن سلمان وابن زايد وبنيامين نتنياهو، صار عاجزاً تماماً عن فعل أيّ شيء.
بالأمس، ظهر أيضاً بعد طول مداراة، أن كلّ انفتاح قطري على بلد أو تنظيم، مهما كانت درجة عدائه للولايات المتحدة وإسرائيل، إنّما يصب في مصلحة الأخيرتَين تماماً، بدءاً من «التعاطف» الظاهري مع تنظيم «القاعدة» عند غزو أفغانستان عام 2001، وصولاً إلى إقامة مكتب لحركة «طالبان» في الدوحة، والذي ظهرت ثمراته في الانسحاب الأميركي من أفغانستان العام الماضي، وبين هذا وذاك الانفتاح على «حزب الله» في عام 2006، ثمّ طهران التي تقوم الدوحة أيضاً بدور الوسيط بينها وبين واشنطن، واستضافة حركة «حماس» التي تقوم الدولة الخليجية كذلك بإدارة مفاوضات غير مباشرة بينها وبين تل أبيب، ولا سيما في حالات الحرب. وحتى المساعدات التي تقدّمها قطر للفلسطينيين لا تخرج عن هذا السقف، بدليل أنه لم يحصل أن قدّمت الدوحة أبداً دعماً لفِعْل المقاومة نفسه. ولم تُخفِ أميركا حقيقة أن التصنيف الذي منحته للدوحة يأتي مكافأة لها على خدماتها خلال الانسحاب من أفغانستان، وجهودها في التوسّط بين إسرائيل و«حماس». ولعلّ أكثر ما يشير إلى «الأمانة» القطرية في خدمة المصالح الأميركية، هو وصْف وزير الدفاع الأميركي، الأمير، بأنه شخص «لا غنى عنه».
وعليه، ليس غريباً أن تكون سياسة قطر مع إسرائيل، مختلفة عن سياسة كلّ من الإمارات والسعودية تجاه الدولة العبرية؛ فالأولى متحرِّرة من السعي لكسْب التأييد الأميركي عبر الممرّ الإسرائيلي، ومُعفاة في الوقت نفسه من حرج إدخال الإسرائيليين إلى الخليج كما تفعل أبو ظبي بصورة علنية وقحة، والرياض خلف الكواليس. وتُخبر الخطوات الانفتاحية على الدوحة التي قامت بها الرياض وأبو ظبي بعد فشل حصارهما المشترك مع مصر والبحرين لقطر، بأن الأخيرة قد تصير هي نفسها أحد الممرّات الرئيسة لتحسين العلاقات مع واشنطن، بعدما دفعت البرودة الأميركية ابن سلمان إلى إظهار تمرّده على الأميركيين، خاصة في ما يتعلّق برفْضه طلباتهم لخْفض أسعار النفط، بالاشتراك مع روسيا التي يسعى الأميركيون لمحاصرتها في أوكرانيا. فضلاً عن ما تَقدّم، ثمّة تنافس بدأ يظهر إلى العلن بين معسكرَين: أحدهما خليجي - إسرائيلي؛ والثاني خليجي - أميركي، ذو علاقة بتنافسَين موازيَين بين اليمين الإسرائيلي والأميركيين من جهة، وبين قطر وكلّ من الإمارات والسعودية من جهة أخرى، ويقوم على خلاف حول طريقة مقاربة الملفّات الكبرى، وأهمّها الملف النووي الإيراني. أمّا أكثر ما خدم قطر في خضمّ ذلك كلّه، فهو أنها كانت في السنوات العشرين الماضية على الدوام، أقرب من كلّ من الإمارات والسعودية إلى أميركا المؤسّسة. وإدارة بايدن متماهية مع تلك المؤسسة التي نجحت في منْع إدارة ترامب من الذهاب إلى النهاية في دعم السعودية والإمارات ضدّ الدوحة، الأمر الذي كان سينتهي بكارثة على المصالح الأميركية لو أن ابن سلمان أتيح له الإطاحة بالنظام القطري عسكرياً عام 2017.