دمشق | حتّى في أفضل مراحل الانتعاش التي عاشها الاقتصاد السوري، ظلّت الأجور متخلّفة بكثير عن متوسّط إنفاق الأسرة، وهذا ما مثّل أحد الأسباب المباشرة لارتفاع معدّل الفقر خلال سنوات ما قبل الحرب. ففي الوقت الذي كانت فيه بيانات مسح دخْل الأسرة ونفقاتها لعام 2009، تشير إلى أن متوسّط إنفاق العائلة شهرياً يبلغ حوالى 30 ألف ليرة سورية، كان متوسّط الرواتب والأجور لا يتجاوز 15 ألف ليرة شهرياً، أي أن الفارق وصل تقريباً إلى الضعف، قبل أن يبدأ بالتدحرج بدءاً من منتصف عام 2013، ليبلغ أضعافاً مضاعفة مع نهاية عام 2021، حيث تشير التقديرات الأوّلية إلى أن متوسّط إنفاق الأسرة شهرياً لا يقلّ عن مليون ونصف مليون ليرة، فيما متوسّط الرواتب والأجور يُراوح ما بين 100 و125 ألف ليرة، بعد الزيادة الأخيرة على الرواتب والأجور للعاملين في القطاع العام.
زيادات بلا طائل
ليست سياسة الأجور والرواتب المنخفضة أو المتدهورة، جديدة أو طارئة على الحياة الاقتصادية في سوريا، إذ إن التاريخ القريب يؤكّد أن هذه السياسة كانت حاضرة منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، في أعقاب موجة التضخّم الكبيرة آنذاك، وازداد بروزها خلال فترة الثمانينيات مع تعمّق الأزمة الاقتصادية والحصار الخارجي الذي تعرّضت له البلاد، وتوجّه الإدارة الاقتصادية يومها إلى تثبيت الرواتب والأجور بحجّة الحدّ من التضخّم. لكنّ النتائج جاءت مغايرة لما أرادته، بحسب ما يَذكر أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق، إلياس نجمة، الذي أشار في دراسة سابقة إلى أن «تثبيت الرواتب والأجور والمحافظة على مستوياتها الدُّنيا، لم يؤدّ في الماضي إلى تحقيق الهدف المُعلَن منه، وهو مكافحة التضخّم وإنقاص معدّلاته، على رغم الثمن الاجتماعي والسياسي الباهظ الذي دُفع من أجل ذلك، كما أنه لم يؤدّ إلى تثبيت الطلب الكلّي الاستهلاكي على صعيد الوطن، بل استمرّ التضخّم واستمرّ الطلب بالارتفاع». ويضيف نجمة أن تلك السياسة أسهمت أيضاً «في زيادة الخلل بين كتلة الرواتب والأجور وكتلة الأرباح والريوع، التي استفادت في آن واحد من النموّ الطبيعي للدخل، ومن النموّ غير الطبيعي الناتج من التضخّم، ناهيكم عن كون أصحاب هذه الكتلة الأخيرة هم أنفسهم أصحاب القيم العينية في البلد من منقول وغير منقول، والتي ارتفعت أثمانها ارتفاعاً كبيراً بسبب التضخّم وزيادة الأسعار». على أن الفشل، بحسب نجمة، «لا يرتبط بتبنّي سياسة تثبيت الأجور بذاتها، وإنّما بعدم إيجاد الشروط اللازمة للاستفادة منها، وتالياً تحقيق النموّ اللازم على المديَيْن القصير والمتوسّط لدفع الرواتب إلى الأعلى، كما في نموذج كوريا الجنوبية». ولعلّ من أهمّ الشروط اللازمة لما تَقدّم، «زيادة الإنتاج كمّاً ونوعاً، والتي من شأنها، مع الأجور المنخفضة، زيادة تنافسيّة المنتَج المحلي على المستوى العالمي، وهذا ما فشلت فيه الحكومات كافّة، فخسرت البلاد الإنتاج النوعي والتنافسي، وربِحت سياسة الأجور المنخفضة».
تحوّلت الرواتب والأجور المنخفضة أو المتدهورة إلى قدَر سيّئ يلازم السوريين


وعلى رغم الزيادات التي كانت تتمّ بين عام وآخر، إلّا أن الفارق بين الرواتب والأجور من جهة، وبين مستويات الأسعار في البلاد أو متوسّط إنفاق الأسرة من جهة أخرى، كان يحافظ بعد كلّ زيادةٍ على معدّلاته لسببَين: الأوّل، أن نسب الزيادة ظلّت دوماً غير كافية، إمّا بحجّة عدم توفّر الموارد المالية اللازمة لتغطية تكاليفها، أو بحجّة الحيلولة دون ارتفاع معدّل التضخم؛ والسبب الثاني، هو أن تمويل الزيادة كان ــــ ولا يزال ــــ يتمّ إمّا من خلال استدانة الحكومة من المصرف المركزي، الذي يلجأ عادة إلى طرح مزيد من السيولة غير المغطّاة إنتاجياً وسلعياً، أو من خلال الوفورات المالية المتحقّقة جرّاء رفع أسعار السلع والخدمات المدعومة. وتتأتّى أهمية مسألة الرواتب والأجور والسياسات المرتبطة بها، من عدد المشتغلين بأجر شهري، والذين يشكّلون وفقاً لبيانات قوّة العمل لعام 2019، ما نسبته 64.9% من إجمالي عدد المشتغلين في البلاد، منهم 64% في القطاع العام، و34.6% في القطاع الخاص، والباقي في القطاع التعاوني، مع الإشارة إلى أن عدد العاملين بأجر في القطاع الخاص، انخفض من حوالى 1.8 مليون مشتغل في عام 2010، إلى حوالى 836 ألفاً في نهاية عام 2019، نتيجة تداعيات الحرب وتدمير القاعدة الإنتاجية للبلاد، فيما يُتوقّع مزيد من التراجع في هذا الرقم بفعل الأوضاع الاقتصادية التي تواجهها سوريا منذ منتصف عام 2019، والتي زادت حدّتها خلال العامين الأخيرين.

فجوة غير قابلة للردم
هكذا إذاً، تحوّلت الرواتب والأجور المنخفضة أو المتدهورة إلى قدَر سيّئ يلازم السوريين منذ ما يقارب الأربعة عقود، خاصة مع «إغفال مسألة تخطيط الرواتب والأجور من زاوية كونها سياسة اقتصادية واجتماعية، تُعدّ الأداة الأهمّ في تلبية احتياجات المواطنين. وهو إغفال أدّى إلى اتّساع الفجوة بين الدخل الاسمي والدخل الحقيقي للعاملين بأجر»، بحسب ما يذكر الباحث الاقتصادي، رفعت حجازي، الذي يضيف في حديثه إلى «الأخبار»، أنه على الرغم من «انتهاء نهج التخطيط الاشتراكي اسمياً، إلّا أن جوهر الخطط الحكومية في بعض أجزائها لا يزال يُدار وفق السياسة المعروفة: أجور متدنّية مقابل توظيف اجتماعي»، متمثّل في سياسة الدعم المتّبعة منذ خمسة عقود تقريباً، والتي جرى التوسّع فيها في الثمانينيات مع اتّساع الفجوة بين الرواتب والأجور من جهة، ومستويات الأسعار والمعيشة من جهة أخرى. وتُبرّر الحكومة استمرار سياسة الدعم، أو حتى إعادة هيكلتها، بالرغبة في دعم أصحاب الدخل المحدود، والذين يشكّل العاملون بأجر القسم الأكبر منهم، خاصّة أن سياسة الرواتب والأجور المنخفضة أو المتدهورة لم تَعُد حكراً على القطاع العام، بل انسحبت على شريحة واسعة من العاملين لدى القطاع الخاص، الذي تأثّر بقرارات وزارة العمل المتعلّقة بتحديد الحدّ الأدنى للأجور في المؤسسات الخاصة، وكذلك بمستويات وقيمة الرواتب الحكومية.
وأمام حجم الفجوة المتشكّلة، والتي لم تصل سابقاً إلى ما وصلت إليه اليوم، تبدو فرص ردمها على المدى القريب غير متاحة، لأسباب متعلّقة بتراكم أخطاء السياسات الاقتصادية المنفَّذة منذ سنوات، وحجم الضرر الذي لحق بالقاعدة الإنتاجية للبلاد، فيما جميع الخيارات المطروحة حالياً ستكون لها تداعيات لجهة رفْع مستوى التضخّم، بدءاً من تحرير أسعار المشتقات النفطية كما تروّج له الحكومة الحالية، وصولاً إلى تقليص عدد الأسر المستفيدة من الدعم. لذلك، لا مناصَ، برأي وزير الصناعة الأسبق حسين القاضي، من «خلْق فرص عمل جديدة، وذلك من خلال تأسيس مشروعات جديدة ودعم المشروعات القائمة، خاصّة المشروعات المتوسّطة والصغيرة منها، ولا سيما أن البلاد تعاني حالياً من ارتفاع مخيف في نسب البطالة». ويضيف القاضي، في تصريح إلى «الأخبار»، أن هنالك «ضرورة لتقديم مزيد من القروض، ومساعدة الشباب على العمل، وتقديم دراسات جاهزة لمشروعات صغيرة. وعند النجاح بتوفير فرص عمل كافية وزيادة الإنتاج، يصبح من الضروري آنذاك مراجعة الوضع الاقتصادي كاملاً في البلاد».