أدّت مغامرة الإمارات في المشاركة المتجدّدة في اجتياح الأراضي اليمنية، إلى وقوعها سريعاً في خطأ الحسابات وسوء التقدير. وسواءً كان ذلك بإرادتها، أو بدفْع من الولايات المتحدة، فإن أبو ظبي تتحمّل المسؤولية الكاملة عن هذه المغامرة. وفي أعقاب بدء ظهور نتائج مجازفتها، متمثّلة في عمليتَي «إعصار اليمن» الأولى والثانية واللتين شكّلتا تحوُّلاً جديداً في مسار الحرب، جاء تراجعها الجزئي والملتبس، بتوجيهها ميليشيات «العمالقة» الموالية لها بالانسحاب من جنوب مأرب، في محاولة للحفاظ على هيبتها، وكخطوة أولى على طريق النزول عن الشجرة بالتدريج.وبينما تؤشّر هذه الخطوة إلى أن الإمارات لم تكن تتوقّع قيام قوات صنعاء باستهداف عمقها الحيوي، في ما يستبطن جهلاً بالعدو على رغم مرور سبع سنين على الحرب معه، فهي تدلّ أيضاً على ضيق خياراتها أمام قصف منشآتها العسكرية والاقتصادية - والذي سيستجلب استمراره تداعيات كبرى على أمنها واقتصادها ومكانتها خصوصاً مع تهديد القيادة اليمنية باستهداف معرض «إكسبو دبي» -، إذ ظهرت الدولة الخليجية مجرّدة من أيّ خطة للتعاطي مع تطوّر بحجم قصف عاصمتَيها السياسية والاقتصادية أبو ظبي ودبي، باستثناء الجهود الدبلوماسية الهادفة إلى إظهارها بمظهر الضحية. أمّا حلفاؤها، ولا سيّما واشنطن وتل أبيب، الذين بالغوا في إصدار بيانات التعاطف والإدانة، فقد عرضوا خططاً ومشاريع للاعتراض الجوي، تستغرق جهوزيتها أمداً طويلاً. وإذا كانت إسرائيل التي زار رئيسها، أمس، أبو ظبي، غير حاضرة للمغامرة ببيْع «القبة الحديدية» لأيّ جهة خارجية، فإن الولايات المتحدة تبدو غير راغبة، أقلّه حالياً، بتزويد حليفتها بمنظومة الدفاع الجوّي «aim-120c-7/c-8»، التي كانت زوّدت إدارة جو بايدن السعودية بـ280 صاروخاً منها، وتزعم وزارة الدفاع الأميركية أن فعّاليتها مقابل تهديدات المسيّرات والصواريخ الباليستية تبلغ 90%.
في المقابل، ظهر أن قيادة صنعاء، التي ثبتت كفاءتها في إدارة الصراع وتقدير الموقف واختيار التوقيت المناسب لاستهداف العمق الإماراتي (مع ما ينطوي عليه كلّ ذلك من أبعاد استراتيجية أهمّها تَحوّل «أنصار الله» إلى قوة إقليمية)، استطاعت إجبار الإمارات على التراجع، ولو مرحلياً، بعدما وضعتها أمام خيارَين لا ثالث لهما: إمّا الانسحاب، أو تحويلها إلى ساحة حرب حقيقية، وهذا ما لن تستطيع أبو ظبي تحمّله، بعدما كشفت عملية «إعصار اليمن» محدودية قدرتها على الصمود الذاتي، وهشاشة خيار الاتّكاء على مظلّة حماية خارجية، سواءً أميركية أو إسرائيلية. على أن قيادة صنعاء تتعامل مع خطوة «العمالقة» بحذر شديد، وتَعتبر أن الحساب مع الإماراتيين لم يُغلق بعد، خصوصاً أنها اعتادت مراوغات أبو ظبي عبر انسحابات متكرّرة سرعان ما تعود عنها. ولذا، تضع «أنصار الله» قرار الانسحاب، إلى الآن، في خانة «الخداع»، وانتظار الفرصة المناسبة لمعاودة العدوان، بما يتيح للإمارات تجنُّب ضربة ثالثة، أو على الأقلّ تأخيرها إلى حين الانتهاء من استحقاقات اقتصادية حالية ورياضية قريبة، فضلاً عن حاجتها إلى فترة من الزمن لإنضاج الخطة المناسبة للتعامل مع الاستهداف. كذلك، تشدّد صنعاء على أن دخول المعركة ليس كالخروج منها، وأن الإمارات ليست هي مَن تحدّد شروط الخروج ولا كيفيته، وأن الثمن المطلوب لتحييد عمقها لن يكون أقلّ من مغادرة «التحالف» والانسحاب من جميع الأراضي التي تحتلّها وتفكيك ميليشياتها المسلّحة. وفي هذا السياق، أشار السفير اليمني في إيران، إبراهيم الديلمي، إلى أن الإمارات لا تستطيع الاستمرار في أيّ مواجهة، معتبراً أنها تلجأ إلى «المخادعة» عبر إعادة التموضع في شبوة، محذّراً إياه من «أننا حاضرون للاستمرار في استهداف كلّ دول العدوان بما فيها الإمارات».
الإمارات لم تكن تتوقّع قيام قوات صنعاء باستهداف عمقها الحيوي


على المقلب اليمني، شكّلت خطوة «العمالقة» صدمة للقوى المحلّية التابعة للتحالف السعودي - الإماراتي، وهو ما تُرجِم في إعلان العديد من المسؤولين والشخصيات استياءهم من الانسحاب، واتّهامهم «التحالف» بتقديم مصالحه على المصالح اليمنية، على رغم أن هذه الخطوة ليست الأولى من نوعها، إذ سبقها انسحاب «القوات المشتركة» (ميليشيات طارق صالح و«العمالقة») الموالية للإمارات من الساحل الغربي، تحت تهديد قصفها بالطيران. وجاءت «إعادة تموضع العمالقة» بعد أن اعتمد الجيش و«اللجان»، في الأسبوع الماضي، تكتيكات حرب العصابات (غير النظامية)، مستفيدَين من التضاريس الجغرافية في تحقيق هدفهما، أي إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر البشرية في صفوف الميليشيات المدعومة إماراتياً بُغية تشتيتها وتقطيع أوصالها. واقتضت خطّة قوات صنعاء، من أجل ذلك، التنازل عن الأرض واستدراج «العمالقة» إلى الكمائن والأشراك وحقول الألغام. وفيما نجحت في تحييد نفسها عن الاستنزاف، فقد أحصت الحسابات الرسمية الجنوبية، أخيراً، مقتل 100مقاتل خلال 24 ساعة فقط.
يوماً بعد يوم، تفرض قيادة صنعاء نفسها على الإقليم والعالم، اللذين لم يَعُد أمامهما إلّا الاعتراف بها والتسليم بدورها، الذي بدأ يتمظهر منذ الأشهر الأولى من العدوان، عندما فشل «التحالف» في إلحاق هزيمة «سريعة ونظيفة» بها، ثمّ تطوّر إلى أن بات يؤسّس لمعادلات ردع تطاول العمق السعودي، وحافظ على وتيرة ثابتة في هذا المسار، إلى أن وصل أخيراً إلى مستوى فاجأ اللاعبين الإقليميين والدوليين، مع تظهيره قدرات صاروخية وجوّية تتميّز بـ«دقة الإصابة والمدى الطويل»، وهو ما تجلّى بوضوح في الضربتَين الأخيرَتين. والأهمّ في كلّ ذلك، أن أصداء تراكم القدرات السابقة واللاحقة لليمن، باتت تتردّد بوضوح لدى صنّاع القرار في كيان العدو الإسرائيلي.