شكّل عام 2006 علامةً فارقةً في المشهد «الجهادي». في حزيران من هذا العام، أُعلن مقتل أحد أبرز زعماء «الجهاد» أبو مصعب الزرقاوي (أحمد فاضل الخلايلة). كان الزرقاوي قد دعا في كانون الأول 2005 إلى «انضواء جميع الحركات المسلحة السنية تحت لواء واحد، هو مجلس شورى المجاهدين». تشكل «المجلس» سريعاً، وكان الزرقاوي بمثابة زعيم «فخري» له، فيما انتقلت زعامته الفعلية إلى أبو عبدالله الراشد البغدادي الذي اشتهر لاحقاً باسم أبو عمر البغدادي (حامد داود محمد خليل الزاوي، من مواليد 1959). وضمّ «جيش الطائفة المنصورة. سرايا أنْصار التوحيد. سرايا الجهاد الإسلامي. سرايا الغرباء. كتائب الأهوال. جيش أهل السنّة والجماعة».
وفي 15 تشرين الأول 2006، أعلن تأسيس «دولة العراق الإسلامية»، عبر اندماج «مجلس شورى المجاهدين في العراق» و«جند الصحابة» و«تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين». اتخذ تنظيم «الدولة» من بعقوبة في العراق «عاصمة» له، وتمت «مبايعة» أبو عمر البغدادي «أميراً» له. كان الزاوي يعمل في سلك الأمن العراقي، ثم تركه بعدما اعتنق الفكر السلفي عام 1985 وصار واحداً من أبرز منظريه. وفي عام 2010 أعلنت «وزارة الهيئات الشرعية بدولة العراق الإسلامية» نبأ مقتل البغدادي، ليعلن «مجلس شورى المجاهدين» لاحقاً «مبايعة أبو بكر البغدادي أميراً لدولة العراق الإسلامية».

إلى الشام دُر... من وراء حجاب

وجد البغدادي نفسه يتولى تنظيماً ليس في أفضل أحواله. مصادر التمويل الخارجية كانت قد انخفضت، وتحولت «الحرب على الإرهاب» إلى «أولوية عالمية»، ما انعكس سلباً على التسليح والتجنيد. وفي ظل هذه المعطيات، شكلت الأزمة السورية فُرصة جيدة لاستعادة التوازن. ومن المعروف أن الفوضى تُعتبر تربةً خصبةً، وصالحةً لـ«الاستثمار الجهادي». لم تكن الصلات الاستخبارية تنقص التنظيم المتطرف، بل كان يحتفظ بخطوط اتصال مع عدد منها، سيّما في محيطه الإقليمي. ويؤكد مصدر «جهادي» لـ«الأخبار» أن «الشيخ البغدادي تلقى إشارات مُشجعة من جهاز إقليمي في دولة مسلمة سُنيّة صديقة للدخول على الخط السوري، ووُعد بدعم مالي كبير لتحقيق هذا الهدف». ورغم إحجام المصدر عن ذكر اسم الدولة بوضوح، غير أنه يجيب عن سؤال «الأخبار»: هل كانت السعودية أم قطر؟ بالقول: «هي واحدةٌ منهما». يضيف أن البغدادي كان صاحب فكرة التوجه نحو سوريا، وأنه «استشار الظواهري (أيمن، زعيم تنظيم القاعدة) فحسب، ورأى الأخير فيها بادرةً مباركة». تمّ التوافق بين البغدادي وداعميه الإقليميين على أن يكون دخول سوريا من دون إعلانِ ذلك «ريثما تقوى شوكة المجاهدين، ويمنّ الله عليهم بالتمكين». وعلى هذا الأساس، كان للبغدادي (كما بات معروفاً) دورٌ أساسي في تأسيس تنظيم «جبهة النصرة لأهل الشام».

أسباب الخلاف بين الجولاني والبغدادي

في 9 نيسان 2013 تفجّر ما كان يُعتبر «ناراً تحت الرماد»، وأعلن البغدادي في بيانه الشهير «حلّ جبهة النصرة، ودمجها في دولة العراق الاسلامية، تحت اسم جديد هو الدولة الاسلامية في العراق والشام». يؤكد المصدر «الجهادي» أن أسباب الخلاف بين البغدادي وزعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني كانت «فكرية بحتة»! إذ «تبيّن أن نهج البغدادي يخالف نهج الجولاني مخالفة جذرية؛ فالأول يؤمن بضرورة إعلان إمارة أو دولة إسلامية فوراً، وإعلان أمير قائد لها، بيده وحده الحل والربط، وباعتماد المجاهدين ولاةً لهذه الدولة على الأقاليم، سواء أكانوا سوريين أم غير سوريين، وعدم الاعتراف بالهيئة الشرعية التي يشارك فيها قضاة من بقية الفصائل الإسلامية، فلا شرع إلا شرع رجال الدولة الاسلامية، ووجوب إعلان البيعة لأمير الدولة من كل الفصائل الاسلامية تحت طائلة اعتبارها خارجة عن سلطان الله، ولا يقوم تعاون عسكري إلا مع الكتائب التي تعلن البيعة حصراً، ومن حق رجال الدعوة في الدولة الاسلامية (خطباء الجوامع) فرض أنفسهم في جميع الجوامع بدلاً من الخطباء ورجال الدين المحليين، كذلك تُعتبر جميع الغنائم والموارد المالية من حق بيت مال الدولة الاسلامية، ولا تُشارك فيها بقية الفصائل، الاسلامية منها وغير الاسلامية».
يؤكد مصدرٌ «جهاديّ» آخر أنّ «الاختلاف في النهج لا يعدو كونه سبباً غيرَ مباشر؛ فالجولاني والبغدادي كانا متّفقين على الاستراتيجيات التي اتبعتها النصرة. ورغم عدم اقتناع البغدادي الكامل بها، لكنّه وافق على اعتمادها بصورة مؤقتة، نزولاً عند تأكيد الجولاني أنّها ستلقى قبولاً أكبر عند أهل الشام». وربطاً بهذا التأكيد يقول المصدر إن «السبب الجوهري للخلاف هو تحول الدولة الداعمة إلى التعامل مع الجولاني بشكل مباشر، وقطع المال عن الأمير البغدادي. لقد خان الجولاني دينه، وأميره».
بعد إعلان البغدادي بفترة قصيرة، ظهر «داعش» على المسرح السوري بقوّة، واتّخذ سريعاً مقار علنيةً له، وأخضع مناطق واسعة من دون اقتتال فعلي، مستفيداً من وجود مقاتلين موالين له كانوا منضوين تحت لواء «النصرة» وسارعوا إلى الانشقاق عنها. وتشير بعض التقديرات إلى أنّ قرابة 65% من عناصر «النصرة» سارعوا إلى إعلان الولاء لداعش، معظمهم من «المهاجرين/الجهاديين غير السوريين». وانضمت إليه فصائل كاملة، منها «مجلس شورى المجاهدين» بقيادة أبو الأثير العبسي، و«جيش المهاجرين والأنصار» بقيادة عمر الشيشاني.
اتسع الخلاف بين «داعش» و«النصرة» ليشمل «تنظيم القاعدة» الذي وقف في صف الأخيرة. كذلك تطور الأمر إلى «حرب أهلية جهادية» كما بات معروفاً، حيث تحالفت «الجبهة الإسلامية» ومعظم المجموعات المسلحة في سوريا مع «النصرة».

مكتسبات «داعش»

حقق «داعش» مكاسب كبيرة من دخوله المشهد السوري، حيث استقطب آلاف «المجاهدين»، سواء من «الأنصار» (السوريين) أو «المهاجرين» الذين استقطبهم «الجهاد الشامي». كذلك أوجد التنظيم لنفسه مصادر تمويل هائلة عبر السيطرة على حقول النفط (التي تُعتبر أحد أهم عوامل اندلاع الحرب الأهلية الجهادية). ويسيطر التنظيم على كثير من الحقول، منها ما تداول السيطرة عليه مع مجموعات أخرى في كرّ وفرّ، ومنها ما بقي تحت سيطرته. ووفقاً لأوساط «النصرة»، فإن عائدات بئر عكيرشة جنوب الرقة تُقدر بمليون و300 ألف دولار يومياً، وآبار الرقة والزملة والطبقة وما حولها وحقل الثورة بنصف مليون دولار يومياً، وحقل كونيكو بـ500 ألف دولار يومياً، تضاف إليها عائدات مجهولة من حقلي جزل وشاعر النفطيين، وحقول الجفرة (نفط وغاز).
كذلك استفاد التنظيم من عمليات الخطف والحصول على فِدى كبيرة (آلاف عمليات الخطف المحلية، وعشرات العمليات التي طالت أجانب، من بينهم صحافيون)، كما من السرقات وعمليات النهب الكثيرة التي طالت آثاراً ومصانع (سطا التنظيم على مصانع ضخمة في حلب، سواء الخاصة أو الحكومية، ومنها معمل السكك والكابلات الحكومي، ومعمل البطاريات والجرارات. وقد قام التنظيم باستثمار المصانع الضخمة، قبل أن يفكّك آلاتها ويبيعها. وتقدر مصادر من أوساط جبهة النصرة عائدات الاستثمار شهرياً بمليون دولار). ويضاف إليها ملف الحبوب، والقطن في المنطقة الشرقية (تتهم النصرة أحد أبرز وجوه داعش عامر الرفدان بسرقة خمسة ملايين دولار ثمن قطن في دير الزور وحدها. وتؤكد أوساط النصرة أن ما جناه داعش من صوامع حبوب العالية في الحسكة يتجاوز حاجز العشرين مليون دولار).
كذلك أتاحت الحرب السورية للتنظيم الحصول على ترسانة كبيرة من الأسلحة، عبر «الغنائم»، وعبر الشراء المباشر من مافيات السلاح العالمي المُستعدة للبيع دائماً، ولأي جهة كانت.



أبو بكر البغدادي

هو إبراهيم بن عواد بن إبراهيم البدري، من مواليد سامرّاء في العراق 1971، يُلقّب بـ«الكرّار»، ويكنّى بـ«أبو دعاء». تخرّج في الجامعة الإسلامية ببغداد، وحصل منها على الماجستير والدكتوراه، ويُعتبر انتماؤه إلى عشيرة «البوبدري» أحد عوامل قوّته. ووفقاً لتصريحات أدلى بها مسؤول في وزارة الداخلية العراقية في كانون الأول 2012، فإن البغدادي «سبق أن اعتُقل في سجن بوكا في البصرة». ساهم البغدادي في تأسيس الكثير من الجماعات الجهادية، ومنها «جيش أهل السنّة والجماعة»، وشغل فيه منصب «أمير القسم الشرعي»، كذلك اختير عضواً في «مجلس شورى المجاهدين»، وكان من المقربين إلى أبو عمر البغدادي، «مؤسس دولة العراق الإسلامية»، وخلفه بعد مقتله، حيث «بايعته الدولة» بتاريخ 16 أيار 2010 أميراً.