غزة | لم يَعُد من المجدي أن يحمل أعمام الطفل سليم النواتي، ثقل إخفاء حقيقة وضع ابن أخيهم الصحّي عن والدَيه. «الآن انكشف كلّ شيء»، بعد أن فقد الرّياضي البارع والطالب المتفوّق حياته على أبواب مستشفيات الشقّ الآخر من الوطن. علم والدا سليم أن ابن الـ16 ربيعاً كان مصاباً بسرطان خبيث، نال منه، قبل أن ينال هو حقّه في الحصول على العلاج في مستشفيات السلطة. حكاية الطفل النواتي بدأت بعد تلقّيه لقاح فيروس «كورونا». حينها، بدأ يُعاني طالب الصف الحادي عشر في «مدرسة فلسطين»، من آلام في البطن، قبل أن تَكشف الفحوص الطبية أن لاعب رياضة «التايكوندو» مصاب بمرض «لوكيميا الدم». وفيما لا تمتلك مستشفيات القطاع الإمكانيات اللازمة للتعاطي مع هذه الحالات، خاطبت العائلة وزارة الشؤون المدنية في رام الله، للمسارعة في تحويل الطفل إلى العلاج في مستشفيات الضفة، إلّا أن العائلة تلقّت ردّاً مُكرَّراً بأن ملفّ سليم ما يزال «قيد الدراسة».أكثر من 35 يوماً من التسويف، هي المدّة التي استغرقتها العائلة للحصول على «تحويلة طبّية» بتغطية مالية كاملة للعلاج في أحد مستشفيات الضفة. ولأن الوقت مِن ألم، حزم عمّ الطفل شُنطه سريعاً، وتَوجّه برفقة ابن أخيه إلى معبر «بيت حانون - إيرز» شمال القطاع، لكنّه فوجئ برفْض «الشؤون المدنية» إعطاء تصريح سفر لسليم، لوجود إشكاليّة بين وزارة الصحة و«مستشفى النجاح». وبعد أيام طويلة من أخذ وردّ، حصلت العائلة أخيراً على إذن سفر لدخول الضفة. يروي جمال النواتي، وهو عمّ الطفل: «توجّهْت إلى مستشفى النجاح في نابلس، الذي رفض حتى إدخالنا إلى قسم الاستقبال. أبلغني المشفى بجفاء بأنه قام بإلغاء التحولية الطبية لابننا المريض وإلغاء الموعد». ويتابع: «تَوجّهنا إلى الضفة في 26/ 12 وبقينا في رام الله لتأخّر الوقت، وفي 27/ 12 تَوجّهنا صباحاً إلى مشفى النجاح، لكن مُنعنا من الدخول إليها، ثمّ عُدنا مرّة أخرى ورُفضنا أيضاً، ثمّ تَوجّهنا إلى مجمع فلسطين الطبي في رام الله، وأيضاً تمّ رفض استقبالنا». وبحسب النواتي، فبعد حصول الطفل على «تحويلة طبية» إلى مشفى «أخلف» الإسرائيلي في 9/ 1، لم يتمكّنا من الذهاب إليه، لرفْض الجانب الإسرائيلي إدخالهما إلّا بعد ذهابهما إلى غزة مرّة أخرى، ليتوفّى سليم في ذلك اليوم. يقول عمّ الطفل الآخر، محمد: «أخفيْت وشقيقي جمال حقيقة مرض ابن أخي بالسرطان عن والديه، خوفاً على حالتهما النفسية، لكن وفاته أجبرتنا فجأة على البوح بأن ابننا المتفوّق، الذي يأمل في دراسة الهندسة، لم يكن يعاني من أعراض لمرض عادي في الباطنة، إنّما كانت أيام صراعنا الأخيرة مع الوقت، هي آخر أيام عمره».
مأساة الطفل النواتي، هي واحدة من آلاف الحالات المرضية الحرجة في القطاع


«مستشفى النجاح»، الذي يتبع الجامعة التي يرأس مجلس إدارتها رئيس مجلس الوزارء السابق رامي الحمد الله، أصدر تصريحاً ادّعى فيه أنه كان قد أبلغ جهات الاختصاص في وزارة الصحة بوقف استقبال حالات الأورام من القطاع، وكان من المفترض أن تُبلِغ الجهات المسؤولة، عائلة الطفل سليم التي جاءت إلى المستشفى «لكي تُجرّب حظّها». غير أنّ العائلة تؤكّد أنها ذهبت إلى النجاح بموجب «تحويلة طبّية» من وزارة الصحة، فيما قابلت المستشفى «التحويلة» برفْض التجاوب، ولم تجرِ حتى كشفاً طبياً للمريض. وتوضح المستشفى، في بيانها، أنه وبتاريخ 23/ 12، تمّ إبلاغ دائرة شراء الخدمة في المحافظات الجنوبية بقرار وقف استقبال «التحويلات» الصادر في 21/ 12، لتقوم الأخيرة بدورها بإبلاغ عائلة سليم بالقرار، مضيفة أنه بتاريخ 26/ 12 وصل الطفل ووالده إلى قسم «التحويلات» في المشفى، و«أَبلغَنا بعلمه بقرار المشفى بتوقّف استقبال الحالات الجديدة، وغادر الأب والابن المشفى، ولم يكن سليم بحاجة إلى تدخّلات علاجية عاجلة». من جانبها، قرّرت وزارة الصحة، الأربعاء، تشكيل لجنة تحقيق في ملفّ وفاة الطفل للوقوف على جميع حيثيّاته، مؤكّدة «إيلاء العلاج لأهالي قطاع غزة الأهمية القصوى».

مواطنون من الدرجة الثانية
مأساة الطفل النواتي، هي واحدة من آلاف الحالات المرضية التي تعيش الألم مُربّعاً في ظلّ الحصار المفروض على القطاع، وضعف الإمكانيات الطبّية لعلاج أصحاب الأمراض الحرجة. يقول المواطن ناهض أبو علي، في حديثه إلى «الأخبار»: «منذ شهور وأنا أتنقّل برفقة زوجتي من مستشفى إلى أخرى، وفيما لم يستطع الأطبّاء تحديد الحالة المرضية التي تعاني منها زوجتي، سعيْت للحصول على نموذج رقم 1 الذي بموجبه يمكننا الحصول على تحويله للعلاج في مستشفيات الضفة المحتلة، غير أنني أتلقّى ردّاً على التقرير الطبّي بأن الحالة لا تتطلّب العلاج على نفقة الحكومة». ويرى الرجل الخمسيني أن السلطة الفلسطينية تتعامل مع مرضى القطاع على أنهم «مواطنون من الدرجة الثانية».
وكانت وزارة الصحة في رام الله قد أوقفت منذ خمس سنوات علاج مرضى القطاع في مستشفيات الداخل المحتل، ولم تنفق خلال تلك الفترة سوى 16% من الموازنة العلاجية لصالح مرضى غزة، علماً أن حصة القطاع في الموازنة العلاجية تصل إلى 40%. ووجّه «مركز الميزان لحقوق الإنسان»، في نهاية العام الماضي، رسالة إلى وزيرة الصحة، مي كيلة، طالب فيها بتوضيح الأسباب التي أدت إلى الانخفاض في أعداد «التحويلات» الطبية لمرضى غزة، للعلاج خارج المؤسّسات الصحية الحكومية. ووفقاً لرسالة المركز، فقد انخفض المعدّل الشهري لهذه «التحويلات» إلى ما متوسّطه 1670 شهرياً، في الفترة الممتدّة من كانون الثاني وحتى تموز 2021، بعدما بلغ خلال عام 2019، 2790 شهرياً. وأشارت الرسالة إلى ثبات متوسّط «التحويلات» الطبّية لمرضى محافظات الضفة، لافتة إلى أن الانخفاض في حالة غزة يأتي في ظلّ استمرار تدهور خدمات الرعاية الطبية ومحدّدات الحق في الصحة في القطاع.