يأتي الإفراج عن بسمة بنت سعود بن عبد العزيز، ليعكس مستوى الاحتقان الذي صار يستشعره وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، داخل الأسرة، بسبب حملة القمع التي طاولت كثيرين من أفرادها الذين صاروا يمثّلون كتلة أساسية في المعارضة السعودية المتنامية. لعلّ التاريخ السعودي الذي تمثّل قضية بسمة تذكيراً مدوّياً به، يسلّط ضوءاً على كيفية سيْر الأمور داخل هذه الأسرة، في الأوقات التي تشهد فيها أزمات، وقد تكون أزمتها الحالية الأشدّ التي تواجهها منذ تأسيس السلالة، على اعتبار أنه يَجري بقوّة القمع الشديد حالياً، الانتقالُ إلى قيادة جيل جديد من حكّامها، ترى أنه لا يمكنها النجاة، إلّا بالقطع مع ذلك الماضي. بسمة هي ابنة الملك الوحيد الذي تمّ خلعه عن العرش من بين ملوك السعودية، حيث تولّى الحُكم في عام 1953 بعد وفاة والده، ليُطاح به في عام 1964 على يد أخيه فيصل، مدعوماً من إخوته الذين تناوبوا حتى اليوم على منصب المَلك، أو وليّ العهد لِمَن لم تسعفه الحياة منهم لتولّي العرش. قيل في حينه إن الانقلاب حصل بتشجيع من الرئيس الأميركي، ليندون جونسون، وهو ادّعاء يعزّزه ضعف حجّة الإخوة الذين تذرّعوا بمرض الملك الذي لم يكن يعاني سوى من ارتفاع في ضغط الدم وداء المفاصل، فيما ظلّ ملوك آخرون في السلطة حتى وهم في حُكم الأموات، وأشهر هؤلاء الملك فهد الذي تولّى الحُكم في عام 1983، وبقي فيه حتى وفاته في عام 2005، على رغم إصابته بجلطة دماغية في عام 1995، أقعدته تماماً وجعلته غير قادر على أداء مهامه، بينما كان عبدالله يمارس السلطة فعلياً، في حين أن سعود توفي منفيّاً في أثينا بعد خمس سنوات من خلعه، وأعيدَ إلى المملكة فقط بعد مماته. من الصعب حتى اليوم الجزم بالدوافع الحقيقية لعزل سعود الذي كان أقرب الملوك السعوديين للراحل جمال عبد الناصر، أو بأسباب اغتيال فيصل الذي كان أكثرهم عداءً لعبد الناصر على يد ابن شقيقه فيصل بن مساعد بن عبد العزيز الذي كان مقيماً في الولايات المتحدة، وقيل يومها إنه كان يعاني من مرض عقلي، الأمر الذي نفته صديقة أميركية له عاشت معه خمس سنوات.
المعارضون من داخل الأسرة الحاكمة يمثّلون تحدّياً خاصاً لابن سلمان


بسمة من «المتنوّرين» في الأسرة، مِمّن ارتبطت معارضتهم بقضايا حقوقية أكثر منها بمصالح داخل العائلة، على رغم تقارير عن روابط قوية جمعتها بابن عمها، وليّ العهد السابق محمد بن نايف، الموضوع قيد الإقامة الجبرية. وأساس معارضتها هذه، السعي لتحسين وضع المرأة البائس في المملكة، لكنّ مواقفها امتدّت إلى السياسة، فعارضَت علناً حملة القمع التي يشنّها ابن سلمان ضدّ المعارضين، واستحواذه على كلّ السلطات، وطالبت بوقف الحرب على اليمن. ومِثل الكثيرين من أبناء الأسرة المعتقلين، تعرّضت بسمة للخداع، فاقتيدت من منزلها في جدة بعد إبلاغها برغبة ابن سلمان بالاجتماع بها، لكنها لم تؤخذ إلى قصره بل إلى سجن الحائر في الرياض، وجرى إخفاؤها لأكثر من شهر من دون أن يَعرف عنها أحد شيئاً، ولم تتمكّن من الاتصال بأسرتها إلّا في نيسان من ذلك العام، ومُنعت حتى من الحصول على الرعاية الصحية لمعالجة مرض في القلب، وفق قول محاميها البريطاني، هنري استرامانت، في رسالة إلى وزير الخارجية البريطاني، دومينيك راب، في عام 2020، باعتبارها حاصلة على جنسية جزيرة دومينيكا العضو في الكومنولث.
وعلى رغم أن حملة القمع وعدم إظهار أيّ تساهل مع المعارضة، تشكّل ركناً أساسياً في حُكم ابن سلمان، يتولّى إنفاذه مساعدون مثل سعود القحطاني، إلّا أن المعارضين من داخل الأسرة يمثّلون تحدّياً خاصاً له، ذلك أن العائلة بمجموعها تعطي شرعية الحُكم. صحيح أن الاعتراضات بين أفرادها كانت قائمة دائماً، إلّا أنها لم تكن أبداً مرتكزة إلى الطعن في الشرعية كما هي اليوم، ولا بالحجم الذي هي عليه الآن. ولذلك، فإن الاعتقالات الواسعة التي شملت عشرات الأمراء من داخل الأسرة، وبعضهم كان يمسك بأهمّ المناصب في الدولة ومرشّحاً لتولي العرش، تثير احتقاناً كبيراً فيها، وتضغط على ولي العهد، بسبب نفوذ هؤلاء في الداخل، وشبكات علاقاتهم الخارجية. ومن هنا، فإن إطلاق امرأة معارضة من آل سعود يمثّل إشارة من ابن سلمان إلى أنه يقف على خاطر أبناء عمومته، لتخفيف هذا الاحتقان. ولعلّ هذا ما يفسّر التغريدة التي نشرتها بسمة بعد الإفراج عنها، وبدت غير عفوية، إذ عبّرت فيها عن «كلّ امتناني وشكري لوالدي الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان حفظهما الله».
وفي الفترة التي كانت فيها بسمة وابنتها في السجن، ربّما تَحقّق الكثير ممّا طالبت به، مِن مِثل إلغاء حظر قيادة المرأة للسيارة، والسماح بخروجها بلا محرم وبحضورها الأنشطة الرياضية والحفلات الموسيقية، وهذه بالذات سياسة ابن سلمان الانفتاحية الهادفة إلى اكتساب شعبية بين الشباب السعودي من جهة، وتقديمه كوجه مقبول للغرب من جهة ثانية. لكنّ الفارق هو أن بسمة ناضلت طويلاً لتحقيق هذه المطالب، بينما يريد حاكم السعودية تقديمها على أنها منّة منه على السعوديين، وليست خضوعاً لمطالب معارضين. واعتقال أمثال بسمة دليل على أن أحداً لا يشعر بالأمان في مملكة ابن سلمان البوليسية، وهذا بالضبط ما يريده ولي العهد، فهو نفسه لا يشعر بالأمان.