دمشق | على رغم محاولة أبو محمد الجولاني ضبْط عملية تسرّب القيادات والعناصر من حَوله، ورسْم خطوط للعلاقة المستقبلية بهؤلاء تَمنع الاشتباك معهم، إلّا أن هذه الظاهرة لا تفتأ تُلاحق «هيئة تحرير الشام»، مُشكِّلة خطراً حقيقياً عليها، لاسيّما في ظلّ تَوجّه المنشقّين نحو تنظيم «حراس الدين»، خصْم الهيئة الرئيس. في هذه الأثناء، يلعب الجولاني على حبلَي «الجهاد» والمفاوضات، فيزجّ بخصومه في خطوط التماس، حتى لا يَظهر رافضاً لما يقتضيه الاتفاق الروسي - التركي، ولا قابِلاً بتسليم طريق «M4»، مترقّباً، في خضمّ كلّ ذلك، معركة تشير المعطيات إلى اقتراب وقوعها مع الجيش السوري
يتواصل تسرُّب القيادات والعناصر من حول زعيم «هيئة تحرير الشام» (النصرة سابقاً)، أبو محمد الجولاني. وقد كان من بين أحدث هؤلاء القاضي محمود عدنان عجاج، الذي أَعلن مطلع الشهر الماضي انشقاقه بسبب ما سمّاه «الفساد»، وقتْل الجولاني لمعارضيه ومحاولته تصفية «الثورة السورية». إلّا أن القاضي، الذي اتّهمته «حكومة الإنقاذ» بالإهمال والتقصير، لم يكن آخر المتسرّبين، إذ لحقه عدد ليس بالقليل من العناصر. وبحسب معلومات حصلت عليها «الأخبار»، فإن ما بين 50 و60 عنصراً انشقّوا بسلاحهم نحو مناطق يسيطر عليها تنظيم «حرّاس الدين»، الذي بات يشكّل تهديداً حقيقياً لسطوة الجولاني على شمال غرب سوريا - على رغم حالة التهدئة السارية بين الطرفين -، خصوصاً في ظلّ رفْض «حراس الدين» مطلب الهيئة إعادة العناصر المنشقّين وأسلحتهم، علماً أن الأوّل تَشكّل أساساً بعد انشقاق سمير حجازي المعروف بـ«أبو همام الشامي»، والأردني سامي العريدي، عن «النصرة» بسبب فكّ الجولاني ارتباط الجبهة بتنظيم «القاعدة». وكان الجولاني خسر، خلال العام الماضي، كلّاً من أبو يقظان المصري، وأبو البراء التونسي، وأبو العبد أشداء، وأبو مالك التلي، والأخير يدير عمليات تجارية خاصة في مدينة سرمدا، فيما يُعدّ السعوديان عبد الله المحيسني ومصلح العلياني، أهمّ مَن ضيّعتهم «تحرير الشام» عام 2017، على رغم بقاء المحيسني قريباً ولاعباً لدور الوساطة في حال وقوع خلافات بين أيٍّ من الفصائل والجولاني.
وعلى خلفيّة ظاهرة الانشقاق تلك، أصدرت الهيئة قوانين تُلزم المُنشقّ بمراجعة ما تسمّيه «لجنة المتابعة والإشراف العليا» بهدف «إبراء الذمة»، كما تمنع على الشخصيات القيادية - في حال انشقاقها - تشكيل فصائل أو كيانات «جهادية» مستقلّة ضمن إدلب وبقية المناطق التي تسيطر عليها الهيئة. ويحاول الجولاني، بهذا، إمساك العصا من المنتصف مع المنشقّين عنه؛ فإن كان لا بد من فضّ التحالفات، فعلى الأقلّ يُعمل على تلافي الخصومة التي قد تصل حدّ الاشتباك، على رغم أن الجولاني نفسه لا يتورّع عن خرْق هذه القاعدة إذا ما تطلّبت سياسته التي يتبنّاها منذ ما يزيد عن عام ذلك، عبر سعيه لتقديم نفسه إلى الأميركيين على أنه «قائد سُنّي» يَحكم مجتمعه بقواعد محدّدة ومتوافَق عليها، ويمكن له أن يتحرّك ضدّ «المتطرّفين» عند الحاجة. ومن هنا، يُتّهم الجولاني بتسليم «التحالف الدولي» بقيادة واشنطن، إحداثيات لمواقع يتمركز فيها قادة من «حرّاس الدين» وسواه من التنظيمات المسلّحة، فضلاً عن تسليم الحكومة الروسية معلومات عن موقع أحد مقرّات إقامة مسلم الشيشاني، الذي لم تكن مصادفة بالنسبة إلى الشخصيات «الجهادية»، محاولة تصفيته بعد مدّة قصيرة من الاشتباك بينه وبين الجولاني، والذي أُجبر بسببه على إخلاء النقاط التي كان يسيطر عليها وتنظيمه.
يحاول الجولاني إمساك العصا من المنتصف مع المنشقّين عنه


تقول مصادر مطّلعة، لـ«الأخبار»، إن «حرّاس الدين» يتحيّن أيّ مناسبة اشتباك مع القوّات السورية ليتمكّن من السيطرة على مساحات جديدة داخل إدلب، وهو ما يشكّل تحدّياً دائماً بالنسبة إلى «تحرير الشام». كذلك، لا يزال الجولاني يَعتبر نفسه غير ملزَم بالتوافق الروسي - التركي لفتح الطريق الدولية «M4»، والذي سيوجب إخلاء جسر الشغور من الوجود المسلّح، وهو ما سيخلق لزعيم الهيئة مشكلة مع أحد أهمّ حلفائه وآخر الموثوقين بالنسبة إليه، «الحزب الإسلامي التركستاني» المُشكَّل من مقاتلين يتحدّرون من أقلية «الإيغور» الصينية. ولذا، وفي محاولة منه للظهور بصورة القابِل بالتوافق التركي - الروسي، وفي الوقت نفسه الحفاظ على دعم مَن تبقّى له من فصائل وشخصيات «جهادية»، عمد الجولاني إلى الزجّ بفصائل كان مختلفاً معها في نقاط التماس المباشر في جبهات ريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي، بما يوحي بأنه يرفض إخلاء النقاط الواقعة في محيط «M4» في الجزء الرابط منه بين محافظتَي حلب واللاذقية مروراً بمحافظة إدلب.
في خضمّ ذلك، تَصف مصادر ميدانية العمليات الجوّية المشتركة السورية - الروسية، التي شهدتها الأيام الماضية، بـ«المختلفة» عن عمليات التمهيد التي تسبق أيّ عمل عسكري سابق في إدلب، موضحةً أن جوهر هذا الاختلاف يكمن في أن خطوط التماس المباشر لم تَعُد أولوية في قائمة الأهداف التي يُعمل على تدميرها؛ إذ تحوّلت النقاط الخلفية والمستودعات ومقارّ القيادة إلى أولوية في عمليات ربّما تكون تمهيداً جوياً لتقدّم بَرّي قد تبدأه القوات السورية قريباً. وتَلفت المصادر، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «قرية مصيبين الواقعة في ريف إدلب الشمالي كانت هدفاً لسلسلة من العمليات الجوية التي دمّرت مستودعات أسلحة وذخائر تابعة للنصرة، كما استُهدف فيها مقرّ قيادة للتنظيم قُتل فيه ما لا يقلّ عن 20 عنصراً من مستويات مختلفة في القيادة». كذلك، شكّل الريف الغربي لإدلب ساحة لمجموعة من الضربات الجوية التي دُمّرت فيها مقارّ لفصائل مشكّلة من مقاتلين أوزبك وقوقازيين ينتشرون في سهل الروج ومحيط مدينة جسر الشغور، التي تُعَدّ السيطرة عليها ضرورية بالنسبة إلى دمشق لتأمين طريق «M4». وبحسب المعلومات، فإن خطوط التماس في جبل الزاوية و جبل الأربعين استُهدفت أيضاً بغارات جوية، بالتزامن مع نقل القوّات التركية تعزيزات إلى نقاطها فيهما وفي سهل الغاب في ريف حماة الشمالي، وذلك من معبرَي خربة الجوز وكفر لوسين، ما يُشير إلى وجود نوايا تركية لعرقلة العمليات السورية، إن انطلقت بمستواها البرّي.