مع عودة الدفء (في مرحلة سابقة) إلى علاقات دمشق والرياض، في أعقاب ما شهدته من تأزّم على خلفية موقفَي البلدين المتعارضَين من عدوان تموز على لبنان 2006، انصبّ جلّ اهتمام القيادة السعودية على زيادة الاستثمارات الخليجية في سوريا، بُغية مواجهة أو منافسة الحضور الاقتصادي الإيراني، والذي جسّده آنذاك افتتاح معملَين لتجميع السيارات الإيرانية - بقيمة إجمالية تجاوزت 108 ملايين دولار -، صُنّفا من بين أضخم 63 مشروعاً استثمارياً نُفّذت وفق قوانين تشجيع الاستثمار. يروي رجل أعمال محسوب على السلطة، وتَحوّل لاحقاً إلى معارض مع بدايات الأزمة، أنه في إحدى زياراته الرياض، طرح عليه المسؤولون السعوديّون سؤالاً عن سُبل زيادة الاستثمارات الخليجية في سوريا، حتى تفوق نظيرتها الإيرانية، مؤكّدين وجود رغبة حقيقيّة لدى الملك عبد الله في توسيع التعاون الاقتصادي مع دمشق.في واقع الأمر، لم يكن مستوى العلاقات الاقتصادية بين دمشق وطهران لافتاً إلى درجة تُقلق دول الخليج، سواءً على مستوى قيمة المبادلات التجارية الثنائية، أو لجهة الاستثمارات والمشروعات المشتركة الخاصة والعامة. فمثلاً، لم تتجاوز قيمة الصادرات السورية إلى إيران، وفق البيانات الرسمية، أكثر من 20.8 مليون دولار عام 2011، في حين بلغت قيمة المستورَدات السورية من إيران في العام نفسه حوالى 375 مليون دولار. وهي أرقام تبدو متواضعة مقارنة بالمستورَدات السورية من السعودية، والبالغة قيمتها في العام نفسه أكثر من 900 مليون دولار. كذلك الأمر بالنسبة إلى الصادرات السورية المتّجهة إلى الأسواق السعودية، والتي فاقت قيمتها في السنة المذكورة 515 مليون دولار. وحتى في الملفّ الاستثماري، كانت البيانات الرسمية تُشير إلى أن رصيد الاستثمارات السعودية في سوريا يساوي تقريباً ثلاثة أضعاف رصيد الاستثمارات الإيرانية (حوالى 3.893 مليار ليرة للأولى، مقابل 1.507 مليار ليرة للثاني، من بين 178 شركة استثمارية رصدها مسح الاستثمار الأجنبي لعام 2009).

اتجاه إلزامي نحو طهران
خلال فترة الأزمة، تعزّزت قناعة بعض الدول بوجود تغلغل اقتصادي إيراني في سوريا، خاصة مع الموقف السياسي والعسكري الذي اتّخذته طهران دعماً لحليفتها دمشق، والذي كان من الطبيعي أن يَعقبه تعميق التعاون الاقتصادي، بهدف تجاوز تأثيرات الحصار والعقوبات، فكان أن غلَب على هذا التعاون ملفّان: الأوّل، يتمثّل في تأمين احتياجات سوريا الضرورية من المشتقّات النفطية والسلع الغذائية وقطع التبديل ومستلزمات الإنتاج، وغيرها، حيث تُظهر بيانات التجارة الخارجية أن إيران جاءت في المرتبة السادسة من بين الدول التي قام القطاع الخاص السوري بالاستيراد منها (بلغت قيمة المستورَدات منها عام 2019 حوالى 117.8 مليون يورو)؛ والثاني، فتْح مجالات جديدة للتعاون، كما في إقامة منطقة التجارة الحرّة الثنائية، وتوقيع حزمة اتفاقيات في مجالات متعدّدة، ومنْح دمشق الأولوية للشركات الإيرانية في المشروعات التي تطرحها في قطاعَي الطاقة والصناعة خصوصاً، مع الإشارة إلى أن بيانات هيئة الاستثمار السورية المتعلّقة بالمشروعات الأجنبية المشملة بقوانين الاستثمار، لا تتضمّن أيّ مشروعات إيرانية خلال فترة الأزمة.
يعتقد مراقبون أن دمشق تستطيع الاستفادة من الاستثمارات كافة بعيداً عن الحسابات السياسية


اليوم، وفي أعقاب توقيع شركة إماراتية عقداً مع وزارة الكهرباء السورية لإقامة محطة كهروضوئية، كإحدى الثمار المباشرة لزيارة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد إلى سوريا، بدأ الحديث عن سعْي بعض الدول الخليجية إلى إعادة التركيز على البُعد الاقتصادي في محاولتها استقطاب دمشق، بعد فشل محاولات فكّ ارتباط الأخيرة السياسي مع طهران. فهل يمكن أن تشهد البلاد مستقبلاً، سباقاً استثمارياً بين الدول الإقليمية لخدمة مصالحها السياسية، بالاستفادة من صعوبة الأوضاع الاقتصادية التي تمرّ بها سوريا؟ كما في السنوات السابقة للأزمة، فإن مجالات الاهتمام الاستثماري للشركات الخليجية والإيرانية تبدو متباينة، الأمر الذي يُتيح لدمشق فرصة الاستفادة من تلك الاستثمارات، ومقاربتها بعيداً عن أيّ حسابات سياسية. وفي هذا الإطار، يوضح الباحث الاقتصادي، عامر شهدا، أن إيران «لديها صناعات ثقيلة يحتاجها الاقتصاد السوري، وهذا ما يعطيها ميزة عن دول الخليج، التي تملك أموالاً تمكّنها من الدخول في استثمارات عقارية وصناعات إنتاجية خفيفة معظمها يرتبط بالإنتاج الزراعي وغيره». ويضيف شهدا، في حديث إلى «الأخبار»، أن «هناك ناحية أخرى أكثر أهمّية تتعلّق بالوضع الاقتصادي لإيران، ومقارنته بالوضع الاقتصادي لدول الخليج؛ إذ تعاني طهران من تضخّم ناتج من ضغوط العقوبات الاقتصادية، التي أثّرت بشكل بالغ على إجمالي الدخل القومي والعجلة الصناعية، أضف إلى ذلك الاستراتيجية المالية التي تَوجّهت في معظمها نحو الصناعات العسكرية ومشروعات الطاقة النووية. كلّ هذه العوامل تؤثّر على القرار الإيراني في التوسّع في الاستثمارات خارج الحدود. أمّا بالنسبة إلى دول الخليج، التي تتمتّع باستقرار جيّد، وموارد مالية هائلة، وتالياً وفورات مالية كبيرة، فهي قادرة على خلْق فرص أكبر لاستثمار أموالها خارج حدودها، إضافة إلى الخبرات التي اكتسبتها في مجال تخطيط المدن، والتي يفتقر إليها السوق السوري، كما إلى الموارد التي تُمكّنه من إعادة الإعمار».

ما بعد الحرب... فرصة للجميع
قد لا تكون دمشق، اليوم، في موقع اقتصادي يؤهّلها لأن ترفض أو تفاضل بين العروض الاستثمارية التي يمكن أن تأتيها، سواءً في مرحلة «الانفتاح العربي» عليها حالياً، والتي لم تكتمل ملامحها وحدودها بعد، أو في مرحلة إعادة الإعمار المرتبطة بانتهاء الأزمة، لكن الأكيد أنها معنيّة بتوفير بيئة أعمال مناسبة لجذب تلك الاستثمارات. وهذا نابع، وفق ما يبيّنه الباحث الاقتصادي فادي عياش، من أهمية الاستثمار الأجنبي المباشر «كأحد أهمّ حوامل التنمية، وتالياً لا مجال لمناقشة أهمية جذب وتوطين الاستثمار الأجنبي المباشر الخليجي أو الإيراني أو غيرهما». ويستدرك عياش، في حديث إلى «الأخبار»، بأن «هذا النوع من الاستثمار يترافق دوماً مع مخاطر عالية تتعلّق بمفاهيم السيادة الاقتصادية والوطنية، ولذا، وإضافة إلى توفير بيئة استثمارية جاذبة ومنافسة، فإن الأمر يحتاج إلى إدارة واعية وتقنية عالية لإدارة وتوجيه الاستثمارات نحو خدمة التنمية في البلد، من خلال تحديد الأولويات القطاعية وحزمة المحفّزات المتعلّقة بها». وإذ يشير إلى أنه «في مرحلة إعادة الإعمار، جميع الاستثمارات هامّة ومفيدة، نظراً إلى حجم الدمار الهائل في البنى التحتية والصناعية والإنشائية»، فهو يشدّد على أن «الأولوية هي لرؤوس الأموال السورية المهاجرة والمغتربة».