غزة | شارف شهر كانون الأول على نهايته، فيما لم تُعلن السلطة بعدُ عن رزنامة موازنتها العامة لعام 2022، والتي يجري إعدادها وسط أجواء من التكتّم. ومثلما جرت العادة في السنوات الأخيرة، تَعتمد الحكومة، الموازنة كما تأتي من رئيس السلطة، من دون إخضاعها للمصادقة من الدوائر الرسمية أو مناقشتها في مؤسّسات المجتمع المدني، فيما لا تزال غزة تُوضع على هامش الإنفاق الحكومي. وعلى رغم أن أموال المقاصّة التي تَجبيها تل أبيب لمصلحة رام الله، من المعابر التجارية الخاصة بالقطاع تُشكّل ما نسبته 30% من إجمالي واردات السلطة، إلّا أنه منذ 15 عاماً، تدأب الأخيرة على تقليص نفقاتها لمصلحة غزة، باطّراد. وفي عام 2021، خصّصت رام الله 1.4 مليار دولار لصرفها في شكل موازنات تشغيلية ونفقات على وزارات حسّاسة في القطاع، إلى جانب رواتب الموظفين العموميين، بما يمثّل قرابة رُبع الموازنة العامة التي بلغت 5.6 مليارات دولار، لكن ذلك المبلغ بقي حبراً على ورق، وفق ما يؤكده الخبير الاقتصادي، أحمد أبو قمر، في حديثه إلى «الأخبار»، موضحاً أنه «لم يُصرَف على غزة حتى نصف المبلغ المقرَّر في موازنة العام الجاري، وهو ما برّرته السلطة بالأزمة المالية التي تعيشها، والتي لا تتبدّى آثارها إلّا في ما يتعلّق بغزة، فيما تُواصل استصدار الرتب السامية واستحداث آلاف الوظائف الجديدة». وكان من المقرّر أن تعلن السلطة، في مطلع تشرين الثاني الماضي، عن رزنامة موازنة العام المقبل، وفق ما حدّده قانون تنظيم الموازنة والشؤون المالية لعام 1998. إلّا أن السلطة لا تتورّع، منذ سنوات، عن القفز على القانون، وإرجاء إقرار الموازنة إلى شهر آذار من العام التالي، محيطةً تفاصيلها بقدْر كبير من السّرية والغموض؛ إذ يشير الفريق الأهلي لدعم شفافية الموازنة العامة، والذي يرعاه «الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة - أمان»، في تقريره نصف السنوي لعام 2021، إلى أن تقارير السلطة التي تخصّ الموازنة «يتمّ نشرها بشكل مختصَر، من دون نشر البنود التفصيلية التي توضح مخصّصات مراكز المسؤولية، وتُعتمد من دون مشاركة أو مشاورات مع ممثّلي المجتمع المدني أو إطلاع المواطنين، بل بتجاهل وإقصاء لجميع المواطنين ودافعي الضرائب، كما لا تلتزم الوزارات بنشر موازنتها على مواقعها، الأمر الذي يثير الشكوك حول وجود سياسة شاملة تتعمّد إخفاء المعلومات».
لا تتورّع السلطة منذ سنوات عن القفز على قانون تنظيم الموازنة والشؤون المالية


إزاء ذلك، يَتوقّع الخبير الاقتصادي، محمد أبو جياب، أن لا تُعلِن السلطة موازنتها بشكل طبيعي لهذا العام، وأن ترجئ إعلانها إلى مطلع آذار المقبل، وأن تلجأ إلى إعادة تفعيل الموازنة غير الطبيعية (الطوارئ)، والتي تسمح لها بالإنفاق وفق مقتضيات الحاجة، من دون الاستناد إلى خُطَّة مُعدَّة سلفاً، بذريعة الضائقة المالية التي تعيشها، بسبب حجب مساعدات الاتحاد الأوروبي عنها. وبخصوص موقع غزة في الموازنة، يلفت أبو قمر إلى أن السلطة وضعت القطاع «خارج الحسبة» منذ بداية الانقسام، وتمادت في تطبيق هذا النهج بعد إقرارها تقليصات في رواتب الموظّفين العموميين في غزة دوناً عن الضفة، مُبيّناً أن «ذلك التقليص الممنهج طاول بداية رواتب الموظفين الذين تلقّوا في الشهر الأخير 70% من رواتبهم، وامتدّ خلال الأعوام الماضية إلى كلّ الوزارات التي لا تتلقّى موازنات تشغيلية». كما طاول التهميش عدداً من الفئات الفقيرة، مثل موظفي تفريغات 2005، البالغ عددهم 8 آلاف موظف، والذين ترفض السلطة اعتمادهم مالياً ضمن كادر الموظفين العموميين، وتَصرف لهم رواتب مقطوعة، مجرّدة من الرتب وعلاوات غلاء المعيشة.
كذلك، قلّصت السلطة إنفاقها على مستفيدي وزارة التنمية الاجتماعية، وهم الشريحة الأكثر فقراً، ولم تَصرف لهم في العام الماضي سوى دفعتَين من أصل أربع، تستفيد منها 81 ألف أسرة فقيرة. وفي ما يتعلّق بالموازنات التشغيلية، رفعت السلطة يدها عن تمويل معظم الوزارات العاملة في غزة، وأبقت على حضورها في وزارة الأشغال، «الدجاجة التي تبيض ذهباً»؛ كونها تتولّى مسؤولية ملفّ الإعمار وجمع الأموال من المانحين باسم القطاع. أمّا الأكثر تضرّراً من التهميش المالي، فوزارتا الصحّة والتعليم؛ إذ تتلاعب رام الله بتوريد الأدوية والمستهلكات الطبية إلى مستشفيات وزارة الصحة في غزة، والتي تصلها أصلاً في هيئة مِنح ومساعدات خارجية. سياسة «دبْروا راسكم» هذه، أفضت أيضاً إلى كارثة صحّية يعيشها مرضى القطاع، والذين فقدوا حقّهم في العلاج في مستشفيات الداخل المحتلّ والدول العربية المجاورة منذ خمس سنوات، فيما لم تنفق السلطة على الملفّ الصحّي في غزة خلال عام 2020 سوى ما نسبته 15% من مجمل الإنفاق الحكومي. وفي هذا الإطار، يَلفت مدير الدائرة الطبية في لجنة التكافل الوطنية والإسلامية، جواد الطيبي، إلى أن للقطاع الحقّ في 40% من الموازنة العلاجية والدوائية للسلطة، مستدركاً، في تصريح صحافي، بأن ما يصل إلى غزة لا يتجاوز الـ16% من حقّها.
بناءً على ما تَقدّم، يَتوقّع الخبير الاقتصادي، أبو قمر، أن لا تنال غزة سوى الحدّ الأدنى من موازنة عام 2022، وهو الهامش المتعلّق برواتب موظّفي السلطة، والذين تتناقص أعدادهم عاماً بعد آخر، بسبب تَحوُّل أعداد كبيرة منهم إلى التقاعد، لافتاً إلى أن أموال المقاصّة التي تجنيها رام الله من معابر القطاع، تُمثّل أضعاف ما تنفقه من رواتب الموظفين.