متغيّرات كثيرة طرأت على حركة «حماس» خلال قرابة ثلاثة عقود، دفعتها إلى تعديل شعاراتها وجعْلها «أكثر واقعية». فلم تَعُد الحركة، بعد 34 عاماً من انطلاقتها، تُنظّر لـ«إقامة حُكم الله في الأرض». كما تخلّت عن رفْضها الحلول المرحلية، وصار ما كنت تَعيبه على «منظّمة التحرير الفلسطينية»، من تحصيل دولة على حدود عام 1967، مقبولاً ولو كحلّ مؤقّت، ناهيك عن أنها تخفّفت من عبء التبعية لجماعة «الإخوان المسلمين». ولم تكن الضغوط التي مارسها الاحتلال على «حماس» كتنظيم مقاوم، بقيادتها وقاعدتها الجماهرية، هي الدافع إلى تلك التعديلات؛ ففي عام 1992، عندما اقتادت إسرائيل المئات من قيادات الحركة الدعَوية والسياسية إلى الإبعاد القسري، كانت «حماس» تؤسّس في مرج الزهور، لبنائها التنظيمي الحديدي الذي بقي متماسكاً إلى اليوم. لكنّ النقطة الفارقة في ذلك المسار، هي تَحوُّل الحركة إلى دولة أو ما يشابه الدولة من كيانات. صحيح أن فوزها في انتخابات المجلس التشريعي عام 2007، لم يمنحها هذا الهامش على النحو الفعلي، إلّا أن تحمّلها مسؤولية حياة مليونَي فلسطيني في قطاع غزة، وضَعها أمام تحدّي تحصيلِ قبولٍ دولي، سقْف الآمال فيه، ليس التفاوض معها، بل عدم اعتبارها «منظّمة إرهابية» على الأقلّ، خصوصاً أن الجهة التي تحظى بالاعتراف و«الشرعية»، هي الخصم التقليدي لـ«حماس».بين الوثيقة الأولى التي نشرتها الحركة في بيان إشهار انطلاقتها عام 1987، والوثيقة الجديدة التي أعلنتها في أيار 2017، متغيّرات يراها منظّرو «حماس» «اضطرارية». فالميثاق الأوّل، الذي مثّل خطاباً تعبوياً صرْفاً، غلَبت عليه اللغة الدينية المستمدّة من القرآن والسُّنَّة، بعيداً من أيّ مرتكزات سياسية، كما بدا متجاوزاً للوقائع والقرارات الدولية، وغير مكترثٍ بها جملة وتفصيلاً، بينما قفز الميثاق الجديد عن الهدف الإيديولوجي المتمثّل في «إقامة دولة الإسلام»، ونحا إلى تعزيز حضور «حماس» كحركة تَحرّر وطني يمكن التعويل عليها لتصبح بديلاً من «منظّمة التحرير»، والتخفّف من التطلّعات ذات البعد الإسلامي العالمي، الممتدّ خارج حيّزها الجغرافي. بتعبير آخر، خرجت «حماس»، في عام 2017، عن الحالة الشعاراتية التي حمّلتها عبْء جماعة «الإخوان» بكلّ ما فيها من تعقيدات إقليمية، إلى حركة وطنية أكثر براغماتية، ولعلّ ذلك جاء نتاجاً لفشل تجارب «الإخوان» في دول «الربيع العربي»، حيث لم يَعُد الرهان على بناء دولتهم قائماً.
من وُجهة نظر «حمساوية»، فإن الوثيقة الجديدة لم تقدّم تنازلات عملية عن الأهداف الأولى


تُقدّم «حماس» نفسها، في الوثيقة الجديدة، على أنها متمسّكة بهدفها الأسمى وهو «تحرير فلسطين من النهر إلى البحر»، مع «هامش مناورة» يراه مراقبون اجتراحاً لخطاب «منظّمة التحرير» التي قَبِلت بما أملاه الواقع الاحتلالي القائم. إذ تُورد الوثيقة: «لا تنازلَ عن أيّ جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض حماس أيّ بديلٍ من تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، من نهرها إلى بحرها». ثمّ تستدرك: «- وبما لا يعني إطلاقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية - فإن حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلّة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أُخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة».
وبين الميثاق الأوّل الذي كتبه عبد الفتاح دخان - رفيق الشيخ أحمد ياسين، وأحد كبار مؤسّسي الحركة إلى جانب حماد الحسنات - والوثيقة الجديدة التي كُتبت في الخارج على يد فريق من السياسيين المتخصّصين وخبراء القانون الدولي، ترأّسهم رئيس المكتب السياسي السابق للحركة خالد مشعل، يَظهر أن «حماس» تحاول، وفق المتخصّص في شؤون الحركات الإسلامية ثابت العمور، «الخروج من حالة المقاومة الحالمة الصرفة، إلى اتّجاه أكثر واقعية، ومن دائرة النبذ الدولي والإرهاب، إلى مساحات التمثيل السياسي للشعب الفلسطيني بوصْفها بديلاً عن منظّمة التحرير». ويعتقد العمور، وهو مؤلّف كتاب «مستقبل المقاومة الإسلامية في فلسطين - حركة حماس نموذجاً»، أنه «من المجاملة الزعم بأن الوثيقة الجديدة لم تتنازل عن الركائز الأصولية للحركة، فقد ظهرت الحركة في طرحها عام 2017 كَمَن يحاول الحصول على جواز سفر، يسمح له بالخروج من قوائم الإرهاب والجلوس على الطاولة الدولية».
لكن هل أفلحت الوثيقة في تحقيق أيّ من أهدافها تلك؟ يجيب العمور بأنه «بعد أربع سنوات على قبول حماس ما كانت تَعيبه على منظمة التحرير، وهو قيام دولة على حدود 67، لم يلْقَ الخطاب السياسي الجديد للحركة أيّ قبول في المجتمع الدولي، ليس لأنه غير متوافق مع رؤيته لحلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي تدنّى سقفه على حساب الحقوق الفلسطينية فقط، بل لأن العالم يأخذ في الاعتبار ما تُقدّمه وما تفعله، وليس ما تقوله. كما أن الوثيقة الجديدة التي سجّلت حماس على نفسها من خلالها تنازلاً لا حاجة إليها به، لم توقف قطار الدول الغربية والأوروبية التي تضعها في قائمة الإرهاب واحدة تلو أخرى». ويُذكّر العمور، في حديثه إلى «الأخبار»، بأن «منظّمة التحرير، حين وقّعت أوسلو عام 1994، كانت وثيقتها التي عدّلتها عام 1996 لا تعترف بإسرائيل وتنادي بتحرير البلاد من النهر إلى البحر، من دون إقامة أيّ اعتبار للحلول المؤقّتة، ومع ذلك لم يلتفت العالم إلى وثيقتها، وتعامَل مع رغبتها في الجلوس على طاولة المفاوضات ومع توقيعها على التنازل».
من وُجهة نظر «حمساوية»، فإن الوثيقة الجديدة لم تقدّم تنازلات عملية عن الأهداف الأولى، إنّما حاولت فقط اللعب في المساحات التي يقبلها «المجتمع الدولي»؛ وذلك لأن الظروف تَغيّرت، وأضحت الحركة أمام استحقاقات التمثيل الذي تستأثر به حركة «فتح» وفصائل المنظّمة التي لا تشكّل فارقاً. وأيّا يكن، فإن الأكيد والعملي والواقعي هو أنه في كلّ الحروب التي فُرضت على المقاومة ما قبل عام 2017 وما بعده، ظلّت تل أبيب ومدن العُمق الإسرائيلي، على رأس القائمة التي لم تُخرجها الوثيقة من دائرة الاستهداف.