بعد انتفاضتَين وأربع حروب مرّت بها حركة «حماس» في قطاع غزة، وأثبتت خلالها قدرة عالية على مواجهة الاحتلال، لم تتوقّف محاولات حرْف الحركة عن أهدافها التي أقيمت لأجلها، وذلك عبر البوّابتَين السياسية والاقتصادية، وصولاً إلى التخطيط لدفْعها في الطريق نفسه الذي سارت فيه حركة «فتح»، وتخلّت عن بندقيّتها في نهايته، بعدما التصقت بالسلطة وبما يوفّره الاحتلال من فُتات مالي لها. وفي أعقاب معركة «سيف القدس»، افتُتح فصل جديد من مساعي التدجين تلك، حيث كان آخر العروض المُقدَّمة إلى «حماس»، رفْع الحصار عن القطاع بشكل كامل وإعادة إعماره وبناء مدن صناعية وسياحية فيه، مقابل هدنة طويلة الأمد والتخلّي عن سلاح المقاومة باتفاقية دولية. لكنّ الحركة لا تزال على رفْضها أيّ تنازلات من هذا النوع، خصوصاً في ما يتّصل بقدراتها العسكرية، التي شهدت تطوّراً كبيراً خلال السنوات الماضية، بفعْل الإمكانات الذاتية لمُهندِسي جناحها العسكري، والخبرات الخارجية التي أمدّها بها «محور المقاومة»، حتى باتت تمتلك أسلحة كاسرة للتوازن.وكانت انطلقت أولى محاولات التدجين بعد الانتفاضة الأولى، وبدء إنشاء السلطة الفلسطينية عام 1994، حيث اعتقلت السلطة المئات من كوادر «حماس»، وفكّكت بنيتها التنظيمية، وعملت على تعيين كوادرها ضمن الأجهزة الأمنية، وربطهم بسُلّم الرواتب مقابل تخلّيهم عن مقاومة الاحتلال وتنفيذ العمليات الفدائية، إلّا أن هذه الاستراتيجية لم تؤتِ أُكُلها مع غالبية عناصر الحركة، الذين أعادوا تشكيل خلاياها العسكرية لدى انطلاق الانتفاضة الثانية، ونفّذوا عمليات كبيرة ضدّ العدو في غزة والضفّة والداخل المحتلّ عام 1948. كذلك، تعرّضت الحركة لعمليات اغتيال استهدفت الصفّ القياديّ الأول، الذي كانت تَعتبره دولة الاحتلال أكثر تصلّباً ورفضاً للحلول السياسية، بما يشمل مؤسّس الحركة الشيخ أحمد ياسين، وقائدها في غزة عبد العزيز الرنتيسي، على أمل أن يكون الصفّ القيادي الجديد أكثر مرونة وقابلية لإحداث تغييرات في التفكير السياسي لـ«حماس». وبالفعل، ظَهر صفّ قيادي جديد في الحركة قبل دخولها الانتخابات، ما ولّد أملاً أميركياً - إسرائيلياً - مصرياً، بإمكانية الوصول إلى الهدف المطلوب.
انطلقت أولى محاولات التدجين بعد الانتفاضة الأولى، وبدء إنشاء السلطة الفلسطينية عام 1994


وفي عام 2005، تواصَل النهج نفسه من خلال «اتفاق القاهرة» الأوّل بين الفصائل الفلسطينية، والذي دخلت بموجبه الحركة الانتخابات البلدية وفازت فيها بشكل واضح، لتَعقبها الانتخابات التشريعية في عام 2006، وتفوز بها «حماس» أيضاً، وتعْمد إلى تشكيل حكومتها، التي مورس عليها حصار خانق كان الهدف منه مساومة الحركة على سلاحها مقابل استمرارها في الحُكم، وهو ما آل، في نهاية المطاف، إلى فشل المشروع الأميركي - الإسرائيلي - المصري الهادف إلى جرّ «حماس» إلى المربّع نفسه الذي دخلته «فتح»، وأنتج «اتفاقية أوسلو» عام 1992، إذ لم تتجاوب الحركة مع الإغراءات التي قُدّمت لها، فيما لم تستطع الأموال القطرية ولا التركية ولا الضغوط المصرية دفْعها إلى التخلّي عن بندقيتها، التي تطوّرت لتصبح ترسانة عسكرية متكاملة.
ولم تكن الحروب الأربع التي خاضتها «حماس» ضدّ العدو، مستثناةً من ذلك السياق، وصولاً إلى المعركة الأخيرة، التي تكثّفت عقبها جهود الترويض، وتمَثّل أبرز وجوهها في زيارة وزير المخابرات المصري، عباس كامل، لقطاع غزة، حيث طرح عروضاً لتحسين الوضع الاقتصادي في القطاع مقابل إدامة الهدوء على الحدود. وعلى الرغم من ذهاب الحركة إلى إحداث تغييرات في وثيقتها السياسية عام 2017، لتتماشى جزئياً مع المتطلّبات الدولية، بما يشمل القبول بدولة على حدود 1967، إلّا أن معركة «سيف القدس» أثبتت، مجدّداً، صعوبة إخضاع «حماس» وتغيير هويّتها العملياتية، التي لا تزال تتعرّض - على رغم ما تَقدّم - لمحاولات تحوير جديدة، عنوانها «الأمن مقابل الاقتصاد».