خيارات محدودة
بناءً على تلك المعطيات، وفي حال لم يتمكّن حمدوك من تشكيل حكومة تكنوقراط خلال بضعة أيّام، بالتزامن مع استمرار التصعيد الذي تقوده «لجان المقاومة» ومعها «تجمّع المهنيين السودانيين» في الشارع، فإن الأزمة السياسية ستبلغ أوجها، ما سيجد فيه قائدا الجيش و«الدعم السريع» مبرّراً لقلْب الطاولة على الجميع بحُجّة إنقاذ البلاد من مصير دول أخرى كليبيا وسوريا، كما يردّدان دائماً. ولعلّ ذلك هو ما يفسّر الظهور الكثيف للبرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) في أجهزة الإعلام المحلّية والخارجية، حيث اضطرّ الأوّل إلى نفي تصريحات نسبتها إليه وكالة «فرانس برس» في شأن إمكانية ترشّح العسكريين للانتخابات القادمة، فيما لمّح حميدتي في أكثر من مناسبة إلى أنه مستعدّ للتخلّي عن البدلة العسكرية إذا كانت تقف حائلاً دون مشاركة العسكريين في السلطة.
اصطدم حمدوك في مشاورات تشكيل الحكومة بمطالب الحركات المسلّحة
هكذا، تتناقض وعود العسكر بإيصال المسار الانتقالي إلى صناديق الاقتراع ثمّ الانسحاب من الحياة السياسية، مع سلوكهم على الأرض، وهيمنتهم على المجالَين السياسي والاقتصادي عبر مؤسّسات الجيش الاقتصادية الضخمة، ومناجم الذهب في منطقة جبل عامر وغيرها، التي تديرها ميليشيا «الدعم السريع»، والتي لا تخضع لرقابة الدولة وتعمل خارج ولاية وزارة المالية ومصلحتَي الضرائب والجمارك. كما أن لهاتَين القوّتَين الرئيستَين في البلاد ارتباطات خارجية، تجلّت خصوصاً في إرسال المقاتلين إلى اليمن، وإلى ليبيا لدعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر، حيث يدرّ عليهما هذا الارتزاق أموالاً طائلة خارج الرقابة أيضاً. ومن هنا، يبدو الأرجح أن يعمد البرهان وحميدتي إلى التشبّث بالسلطة لحماية مصالحهما الاقتصادية، وهو ما لن يتحقّق لهما من دون فرْض هيمنتهما الكاملة على المجال السياسي؛ إذ إن أيّ تخلٍّ عنه سيعني إمكانية محاكمتهما بتهم الفساد، وارتكاب مجزرة بحقّ المدنيين العزّل إبّان فضّ اعتصام القيادة العامة في 3 حزيران 2019، فضلاً عن قتل المتظاهرين في الاحتجاجات الأخيرة.
استقواء بكوادر «الإخوان»
منذ انقلاب 25 تشرين الأول، أجرى رئيس «المجلس السيادي»، عبد الفتاح البرهان، تغييرات كثيرة في الطاقم الحكومي، عبر عزل كبار المدراء والموظفين الذين يرتبطون بـ«قوى الحرية والتغيير»، وتعيين موالين للنظام السابق بدلاً منهم. وفي هذا الإطار، أعفى البرهان ستّة سفراء من مناصبهم من بينهم السفير السوداني في واشنطن، وذلك بعد إصدارهم بياناً رفضوا فيه استيلاء الجيش على السلطة. كما أعفى النائب العام مبارك محمود من منصبه، بالإضافة إلى 7 من كبار وكلاء النيابة العامة، وعَيّن لاحقاً الكادر «الإخواني» المعروف، خليفة أحمد خليفة، بدلاً من النائب العام المُقال، و«الإخواني» عبد العزيز فتح الرحمن عابدين رئيساً للقضاء. ولم يكتفِ قائد الجيش بما تَقدّم، بل مضى في استقدام كوادر مقرّبة من النظام السابق إلى «مجلس السيادة»، أبرزهم أبو القاسم برطم النائب في برلمان نظام عمر البشير، وأحد أبرز دعاة التطبيع مع إسرائيل، وسلمى عبد الجبار المقرّبة من «الإخوان»، فيما أحال عدداً من كبار ضباط الشرطة والاستخبارات العسكرية والمخابرات العامة إلى التقاعد، وعَيّن الفريق أحمد إبراهيم علي مفضل مديراً للمخابرات، علماً أن الأخير شغل في عهد عمر البشير منصب مدير هيئة المخابرات الخارجية في جهاز الأمن والمخابرات الوطني، فضلاً عن منصب والي ولاية جنوب كردفان. وشملت تعيينات البرهان، أيضاً، الكثير من الكوادر العليا والوسطية في الوظائف العمومية والبنوك والقطاعات الحيوية للدولة، باستغلال الفراغ الذي أحدثه انقلابه، من أجل فرض واقع جديد في البلاد، وتشكيل حالة شعبية وسلطوية موالية له، خصوصاً في ظلّ افتقاره إلى قاعدة سياسية وجماهيرية.