قريباً من هذه الأيام عام 2018، يقف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، موقفاً عصيباً لا يُحسد عليه. للتوّ، أنجز فريقه الأمني، الأسوأ في التنكّر، مهمّة قتل جمال خاشقجي وتبضيعه بالمنشار وإخفاء أوصاله في قنصلية المملكة في إسطنبول. ذاع خبر الفضيحة بسرعة البرق، وبدأ الأمير الشاب يتلقّى الصفعات. بعض منها لا يزال أثره ماثلاً، كقضية عدم ترحيب العواصم الغربية بزيارته. على إثر الغزوة «المنشارية»، قرّر ابن سلمان مواجهة الانتقادات الدولية و«فكّ الحصار» عن نفسه، فاختار القيام بجولة عربية، في الطريق إلى حضور قمّة مجموعة العشرين في الأرجنتين. افتُتحت الجولة بزيارة الإمارات، فالبحرين، ثمّ مصر، وتونس. بعد ثلاث سنوات، تسنّى الاطّلاع على جانب من كواليس محطّته المصرية من الرحلة، والفضل في ذلك يعود إلى برقية ديبلوماسية إماراتية مسرّبة اطّلعت عليها «الأخبار».البرقية صادرة عن سفير الإمارات لدى القاهرة ومندوبها الدائم لدى جامعة الدول العربية، جمعة مبارك الجنيبي، مرسَلة إلى وزير الدولة للشؤون الخارجية آنذاك، أنور قرقاش، بتاريخ 13 كانون الأوّل 2018، تحمل عنوان «الموضوع: زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى مصر». والمقصود زيارته المذكورة أعلاه، والتي تمّت قبل أسابيع من صدور هذه البرقية. تتحدّث الورقة عن معلومات توفّرت حول تفاصيل الزيارة:
- تولّى الجانب السعودي كلّ ما يتعلّق بالتغطية الإعلامية للزيارة، مانعاً المؤسسات الإعلامية المصرية من القيام بأيّ دور يُذكر. كما أعدّ الجانب السعودي البيان الختامي.
- رفَض الجانب السعودي أن يقوم أفراد أمن مصريون بتأمين المرافقة لموكب ولي العهد خلال تنقّلاته، وتمّ تأمين إجراءات الحماية لموكبه ومقرّ إقامته من قِبَل أفراد أمن سعوديين فقط.
- تفاجأ الجانب المصري بإصرار الجانب السعودي، أثناء جلسة المباحثات، على ضرورة تحديث هيكل جامعة الدول العربية، وخاصة لجهة اعتباره أنه قد حان الوقت لتغيير الأمين العام للجامعة، أحمد أبو الغيط. كما انتقد الجانب السعودي وزير خارجية مصر، معتبراً أنه يعيق تقدّم العلاقات المصرية - السعودية.
ليس انطباع السيسي هذا مفاجئاً أو مختلَفاً عليه بين خصوم ابن سلمان وحلفائه


- أبدى الرئيس المصري انزعاجاً واضحاً عندما أعدّ حفلة غنائية خاصة في دار الأوبرا المصرية تكريماً لولي العهد السعودي، حيث تلاقى موكبا الرئيس وولي العهد عند الاقتراب من دار الأوبرا، وتفاجأ السيسي بانفصال موكب الأمير محمد قبل دخول الدار. وبعد دخول الرئيس إلى القاعة انتظر طويلاً، واستفسر الجانب المصري من الجانب السعودي، فتمّ إبلاغه بأن الأمير ذهب إلى الفندق «مريّح شوية»، بحسب ما أفاد مقربون من السيسي الذي اغتاظ لهذا التصرّف وغادر القاعة قائلاً: «صحيح عيّل». (انتهت البرقية)
ليس انطباع السيسي هذا، المنقول على ذمّة البرقية الإماراتية ومصادرها، مفاجئاً أو مختلَفاً عليه بين خصوم ابن سلمان وحلفائه. إنّما تجدر الإشارة إلى أن زيارة دار الأوبرا سبق للأمير السعودي أن قام بها في العام نفسه، في أشهر زيارة له إلى مصر والأولى كوليّ للعهد، وبالتالي بدا جدول السيسي «مملّاً» بالنسبة إليه. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن ابن سلمان المرتاب والمرتبك في شأن أمنه، والذي كان خارجاً عارياً من قتل خاشقجي، مرّ آنذاك في أسوأ أوقاته، حيث تعرّض للتهزيء والتقريع حول العالم. مع ذلك، فإن غضب السيسي مبرّر، لجهة أنه بالإمكان طلب إلغاء الزيارة مسبقاً، وتقدير «التضامن النادر» مع ولي العهد. ولعلّ أكثر ما يلفت في عبارة الرئيس المصري أنها جاءت على نحو الاستشهاد، لتوكيد انطباع مسبق موجود لديه، لا نتيجة انفعال اللحظة: «صحيح عيّل»!
من جهة أخرى، ما يَرِد عن الموقف من أبو الغيط، تؤكده رغبة المملكة الدائمة في السيطرة الكاملة على جامعة الدول العربية. وقد تردّدت الدول الخليجية هذا العام في التجديد للرجل في منصبه. وما يبقى غير واضح الخلفيات ولا تتحدّث عنه البرقية، هو الموقف من وزير الخارجية سامح شكري، والذي لا يمكن الجزم بما إن كان مرتبطاً بملفّ الجامعة أم بغيره.
على أيّ حال، لا ينبغي اعتبار أن انطباعات السيسي عن الخليجيين، وأشهرها التسريب الذي يقول فيه «الفلوس (عندهم) زيّ الرز»، تترك أثراً بالغاً - كحال مواقف عربية أخرى - على العلاقات التي تظلّ حاجة استراتيجية للطرفين. واليوم، تشهد مصر نموّاً لهذه العلاقات، الجديد فيها اشتداد التنافس على الملفّ المصري، كما ملفّات أخرى، بين الحليفَين اللدودَين: الرياض وأبو ظبي.