في وقت كانت فيه أزمة الوقود في الولايات المتحدة تتفاقم بسرعة بفعل الارتفاع الحادّ والمقلق في أسعار المحروقات والذي بلغ نحو 40%، كان الرئيس الأميركي، جو بايدن، يُبدي في اجتماع «مجموعة العشرين» الشهر الماضي، أسفه لفشل كبار منتجي النفط في العالم في ضخّ المزيد من النفط الخام للمساعدة في خفض الأسعار، ملقياً اللوم في ذلك، خصوصاً، على كلّ من روسيا والسعودية. لاحقاً، اضطرّ بايدن لإعلان البدء بالسحب من الاحتياطي الاستراتيجي للبلاد، بعد أن رفضت المملكة، الزعيم الفعلي لـ«أوبك» وأكبر مصدّر للنفط في العالم، التزحزح عن موقفها الرافض لزيادة الإنتاج، أو على الأقلّ إعادته إلى مستواه المعتاد. ظاهِر الأمر، وفق ما تُجادل به «أوبك+»، أن العالم سيواجه قريباً تخمة جديدة في المعروض، وأن من الضروري تحقيق التوازن بين العرض والطلب. لكن الحقيقة، من جانب السعودية على الأقلّ، قد تكون في ما عبّر عنه وزير الطاقة، عبد العزيز بن سلمان، في تصريح مطلع الشهر الجاري، عندما قال إن النفط «ليس هو المشكلة»، بل هو، في الحقيقة التي لم ينطق بها الوزير، مظهر من مظاهر تعكّر العلاقات بين الحليفَين، والذي يحمل الرياض على مناكفة واشنطن في غير ملفّ. مناكفةٌ يدفع في اتّجاهها أيضاً استياء ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، من تجاهل الرئيس الأميركي له؛ فالأخير لم يتّصل به شخصياً إلى الآن، ولم يوافق حتى على مصافحة عابرة معه في الردهات، تلتقطها عدسات الصحافة العالمية على هامش «قمّة العشرين» في روما. صحيح أن ابن سلمان قال في مقابلة بثّها الإعلام السعودي في نيسان الفائت، إن «ثمّة توافقاً بنسبة تفوق 90% بين السعودية وإدارة جو بايدن»، إلّا أنه لوّح في المقابلة نفسها بأنه لو ذهبت عقود النفط السعودي الرخيص إلى دولة أخرى مثل بريطانيا «لما كانت أميركا بوضعها الحالي اليوم»، مشدّداً على أن السعودية ساهمت في تنامي قوّة الولايات المتحدة. وهكذا، يبدو أن ابن سلمان يخوض حرباً نفطية في وجه بايدن، أملاً - على المدى القصير - في كسْر مقاطعة الأخير له ودفعه إلى مسايرة المملكة في الملفّات الخلافية، وسعياً - على المدى البعيد - إلى الإضرار بالديموقراطيين في معركتهم الداخلية المقبلة.
في المقابلة المذكورة أعلاه نفسها، أجاب ابن سلمان سؤالاً حول وجود تباين مع الأميركيين بالقول إن «هامش الاختلاف قد يزيد أو يقلّ» مع الانتقال من إدارة إلى أخرى في الولايات المتحدة، مستدركاً بأن «الأمور التي نختلف عليها أقلّ من 10% ونعمل على تحييد خطرها على بلدَينا». إلّا أن الـ10% هذه يبدو أنها تمدّدت لتشمل معظم الملفّات التي تديرها السعودية أو تشارك في إدارتها بتكليف أو تنسيق أميركيَّين أو حتى تجد نفسها معنيّة بها، بدءاً من الملفّ النووي الإيراني وليس انتهاءً باليمن. في هذا الإطار، وعلى رغم أن واشنطن والرياض تتشاركان النظرة إلى إيران بوصْفها «أخطر تهديد عسكري» في المنطقة، وفق ما أظهره بحسبهما الهجوم على منشأتَي «أرامكو» السعودية في بقيق وهجرة خُرَيص في أيلول 2019 والذي أدّى إلى تعطيل ما يقرب من نصف إنتاج المملكة من النفط لعدّة أسابيع، إلّا أن إدارة بايدن لا تزال تُظهر ميلاً للعودة إلى الاتفاق النووي المُوقّع عام 2015، الأمر الذي من شأنه، إذا ما تَحقّق، أن يؤدي إلى تعميق الخلافات السعودية - الأميركية.
تعتقد واشنطن بحسب الوثائق أن هناك «فرصة وإنْ غير سهلة» لإنهاء الحرب في اليمن


أمّا بخصوص اليمن، الذي كان تعهّد بايدن في حملته الانتخابية بوضع حدّ للحرب فيه، فإن ما تُظهره المعطيات المتواترة بشأنه منذ إطلاق الإدارة الجديدة عملها الديبلوماسي على هذا الخطّ، يُظهر أن ثمّة ارتباكاً أميركياً في التعامل مع مَن سمّاه أحد كبار المسؤولين الأميركيين السابقين «السائق المخمور» الذي لا تزال الولايات المتحدة «راكبة معه في السيّارة نفسها» (التعبير أورده روبرت مالي وستيفن بومبر في مقالة سابقة في «فورين أفيرز»). إذ إن الولايات المتحدة توصّلت، على ما يبدو، إلى قناعة بضرورة العمل على إخراج السعودية من المأزق اليمني بأقلّ الخسائر الممكنة، لا بأكبر المكاسب الممكنة، والتي بات متعذّراً تحقيقها في ظلّ موازين القوى الميدانية والعسكرية الحالية. لكن المشكلة أن المملكة لا تزال تعتقد أن بإمكانها، بالتحايل الديبلوماسي وإدامة الحصار والتعبئة، ركْس وقائع الميدان لصالحها. ولعلّ هذا التباين تجلّى بوضوح في الاجتماع الذي ضمّ مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، إلى ابن سلمان في الرياض في أيلول الماضي (في أوّل تواصل أميركي رفيع المستوى مع الرجل منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض)، حيث وُصف اللقاء بأنه «الأسوأ على الإطلاق». ومع أن تلك الخطوة أعقبتها، في الشهر الجاري، موافقة وزارة الخارجية الأميركية على أوّل صفقة كبيرة لبيع الأسلحة للسعودية تحت قيادة بايدن، تشمل 280 صاروخ جو - جو، إلّا أن ذلك بدا في إطار سياسة «العصا والجزرة» التي تستهدف ترويض ولي العهد، والدفْع نحو إنزاله عن الشجرة بالأدوات التي لا تجعله في موقع المنهزم مكتمل الأوصاف (وهو ما يجعل الجهود الأميركية، إلى الآن، غير ذات جدوى، بالنظر إلى أنها لا تزال تنصب سقفاً عالياً ترفضه «أنصار الله»).
بحسب وثائق مصنّفة ضمن خانة «سرّي للغاية» صادرة عن مؤسّسات رسمية في دول خليجية، اطّلعت «الأخبار» على نسخ منها، فإن الإرباك يكاد يمثّل السِمَة العامة التي تحكم علاقة السعودية مع كلٍّ من الفريق الأميركي الذي يتولّى الهندسة السياسية والعسكرية للمعركة في اليمن، من جهة، والفريق اليمني الموالي لها، والمتمثّل في حكومة عبد ربه منصور هادي، من جهة أخرى. إذ تُظهر الوثائق استياء واشنطن من طلب الرياض مساعدة دول أوروبية في تعزيز دفاعاتها الجوية ضدّ الهجمات الصاروخية لقوّات صنعاء، واعتبارَها أن هناك «فرصة وإنْ غير سهلة» لإنهاء الحرب في اليمن. كما تُظهر أن المبعوث الأميركي الخاص إلى اليمن، تيموثي ليندركينغ، لمس خلال زيارته الأخيرة إلى الرياض، استعداد السعودية لإنهاء الحرب، إلا أن «التخريجة» لا تزال موضع تباين بين الأميركيّين والسعوديّين؛ حيث يسعى الأخيرون إلى جنْي مكاسب من الأميركيين والإيرانيين، قبل الركون إلى الحلّ النهائي، فيما تعتقد الولايات المتحدة أن مهمّة مبعوثها إلى اليمن تنحصر في دعم جهود المبعوث الأممي لوقف الحرب والانتقال إلى المحادثات السياسية، وليس البحث عن أفكار جديدة. ووفقاً للوثائق نفسها، فإن نائب وزير الدفاع السعودي، خالد بن سلمان، المُمسِك بالملفّ اليمني، يقود جهوداً بعيدة عن الأضواء بما يتماشى مع الرؤية الأميركية، ولعلّ هذا ما يفسّر التغيّرات التي ظهرت لاحقاً على أكثر من جبهة، في مأرب وتعز والحديدة وحجة. كذلك، تبيّن الأوراق «السرّية» حجم الخلاف داخل المعسكر اليمني الموالي للتحالف السعودي - الإماراتي من ناحية، وبين كلّ من أطراف هذا المعسكر وبين السعودية من ناحية ثانية، وسط إشارات لافتة إلى ضغط أميركي على الرياض من أجل تقديم الدعم لجنوب اليمن، لتعزيز «الاستقرار» فيه، الأمر الذي يبدّد الغموض حول الكثير من التحوّلات على الساحة الجنوبية في الآونة الأخيرة.