خالد جمعةبين الدولة والوطن، هناك اختلاف. فالدولة، هي بالدرجة الأولى كيان مستقل، ببنى تشريعية وسياسية واجتماعية، وبنظام حكم ما. أما الوطن؟ فليس بحاجة إلى كل هذا. لأنه ينشأ من تأصل فكرة الانتماء حتى لو لم تكن بقية أركان الدولة قائمة، تماماً كما هي الحالة الفلسطينية. ولكي تتأصل فكرة الانتماء، يجب العمل عليها عند الجيل الناشئ، ليس فقط في المناهج المدرسية، بل في كل مكان حتى في إعلانات الشوارع. بعد بداية الانتفاضة الأولى بثلاث سنوات، بدأ بعض الفصائل التي كانت الثقافة الوطنية على سلم أولوياتها، بطرح شعار «التحول نحو قوة أولى»، وهذا يعني ببساطة على مستوى الكم لا الكيف، و بعد أن كان الفرد الواحد يمكنه نقاش بلاد بكاملها، أصبحت هذه الفصائل تهتم فقط بعدد المنتسبين إليها، تماماً كمنطق اللايكات على الفايسبوك، أعقب ذلك مجيء السلطة الوطنية الفلسطينية وتغيير المناهج، وهنا دخلت الثقافة الوطنية في نفق مرض طويل أخشى أنه يأخذها الآن إلى مرحلة الموت الحتمي.

ليست الثقافة الوطنية مرتبطة بأن يعرف ولد لاجئ في المخيم أن جده مولود في صفد أو أن أباه كان لديه بيارة في يافا، فهذا في العادة يُردّد من دون وعي عميق لمعناه، بل وأذهب إلى أبعد من ذلك، فأقول إن هذه المعلومة تكون عادة إجابة الأهل السهلة على سؤال الفقر الذي يحيط بالمخيم وأهله، «فلو عدنا إلى البلاد يا بني لكان حالنا أفضل»، بل ترتبط بما هو أعمق، بدءاً من تاريخ فلسطين الممتد منذ مئة وأربعين قرناً، وكل تلك الشعوب والطوائف والديانات التي مرت عليه، إلى قصص النضالات الفردية والجماعية للفلسطينيين، إلى إحياء ذكر الذين استشهدوا، ولماذا استشهدوا، وأي وعي يمكن أن يجعل الإنسان يضحي بحياته من أجل أرضه، يمتد هذا الوعي إلى المدن الفلسطينية، جمالها وقبحها، و لا أعني أسطر التاريخ الفلسطيني، ولا أعني تجريد التاريخ حتى من أخطائنا، إن الوعي بالثقافة الوطنية يجب أن يضع الفتى الفلسطيني في صورة الشعب الطبيعية، لا تلك الصورة المقدسة التي تنكسر في رأسه بمجرّد أن يرى أباه يضرب أمه.

حتى لو كانت
فلسطين بلاداً بلا مقدسات سأحبها

جلّ القضايا الفلسطينية أضحت في العشرين سنة الأخيرة تُناقش على السطح! وحين أقول على السطح، سأورد مثلاً، فحين يجري الحديث عن القدس، يجري الحديث عن حق الفلسطينيين في أن تكون القدس عاصمتهم، حسناً، لكن لا يجري التطرق إلى هذه المدينة من حيث تاريخها ونشأتها وعلاقة الفلسطينيين تاريخياً بها، فقط يكون الحديث عنها وكأن الجميع يعرفون ما تعنيه! هذا ليس صحيحاً! فهناك الكثير من الفلسطينيين، كباراً وصغاراً، لا يعرفون المسجد الأقصى حتى في الصور! هكذا يظنون مثلاً أن قبة الصخرة الذهبية هي المسجد الأقصى مثلاً، وهذا لمسته في النقاش الشخصي وليس تحليلاً، بينما عليهم أن يعرفوا أن هذه هي قبة الصخرة، وأن المسجد الأقصى يقع تحت تلك القبة الفضية الأصغر حجماً.
إن السطحية التي يجري التعامل بها مع الثقافة الوطنية، تأخذنا بوضوح إلى مكان لا رجعة منه، وهو انتهاء فكرة القضية الفلسطينية من روح الشعب الفلسطيني، بحيث تبقى هذه القضية عبارة عن شعارات كبيرة فارغة المحتوى، وصور عامة غائمة لا تفاصيل فيها تجسّد معناها.
في أكثر من مرة اقترحت على مؤسسات المجتمع المدني مثلاً، أنهم عندما يعقدون ورشات العمل ذات التكاليف العالية، أن يستعينوا بالنساء الفلسطينيات البسيطات في تقديم الوجبات في هذه الورشات، أي أن يدفعوا لهن لصنع المفتول والمناقيش والمخللات الفلسطينية وحتى البسارة والمجدرة والمقلوبة، بدلاً من الطعام الفاخر الذي يأتون به من المطاعم. وكانت فكرتي لا تذهب فقط باتجاه مساعدة النساء البسيطات، لكن أيضاً لتعزيز جزء من الثقافة الوطنية المتمثلة في المطبخ الفلسطيني، ولا أظن أن أحداً فعل ذلك، والسبب واضح.
شخصياً لا أؤمن بأي مناضل سواء كان يطلق الرصاص أو يتحدث في السياسة، طالما لم يكن لديه إيمان حقيقي بثقافته الوطنية، فمن أجل ماذا نناضل إذا كانت الثقافة الوطنية لا تسند حركتنا؟ أليست السويد وقتها أجمل من فلسطين للحياة؟ أنا شخصياً لا أحب فلسطين لأنها جميلة وخضراء وفيها مقدسات، بل لأنها ببساطة بلادي، أرضي التي تكون دمي من برتقالها وتكونت ذاكرتي من بحرها، وحتى لو كانت بلاداً جرداء أو بلاداً بلا مقدسات إسلامية أو مسيحية، ولو كانت مملوءة بالعقارب والحيات، سأحبها أيضاً، لأن هذا هو المعنى الحقيقي لأن تكون فلسطينياً، وهو المعنى الحقيقي لأن تكون مصرياً أو جزائرياً، وحين تفقد الأجيال الجديدة إحساسها بهذا المعنى، فكيف يمكننا أن نطلب منها أن تكون فلسطينية منتمية إلى بلادها، إلى وطنها قبل أن تنتمي إلى دولتها. سواء أوجدت هذه الدولة قريباً أم لم توجد.
في ثنايا شعبنا هناك الكثيرون ممن اعتادوا العيش من وراء الرثاء، ولا يريدون تغييراً لهذا الوضع. هكذا أصبحت فلسطين لديهم، تتمثل فقط في الشهداء والحروب والبيوت المهدومة، ويريدون فلسطين من النهر إلى البحر «شعاراً»، حسناً، قبل أن نفكر في أن نستعيد فلسطين من النهر إلى البحر. علينا أن نفكر جدياً في طريقة استعادة أبنائنا من براثن غول الجهل الذي يقبض عليهم ، وإلا؟ فإن فلسطين، وأنا مسؤول عمّا أقول، لن تكون على أية خريطة خلال السنوات المقبلة.





فكرة الثقافة الوطنية ليست مرتبطة بمؤسسة أو دائرة ما، فهي مبثوثة في كل مجالات الحياة الفلسطينية التي تطورت بالتفاعل مع محيطها من أرض وناس وطقس ونبات وبحر. فالأغنية والحكاية الشعبية ورقصات الدبكة والأكلات الفلسطينية والأمثال وحتى الأساطير القديمة والآثار الباقية والثوب الفلسطيني والزيتون والجميز والبرتقال والبحر وغيرها من الحيثيات، حين يجري غرسها في أفئدة وعقول أبنائنا، فهذا ضمان لاستمرار القضية الفلسطينية التي أضحت في العشرين سنة الأخيرة، تُناقش على السطح.